للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بهذا القدر. على أنها أبت ذلك وأصرت على إبائها حين ألح عليها، حتى أنذرها ذلك الأخ أنه مانع عنهما بعد ذلك معونته وقابض يده. ولعل هذه الحادثة زادت المازني الطفل شعورا بوطأة الفقر وحنقا عليه، ودفعته إلى ذبل الجهد في سبيل تحقيق رغبة أمه في أن يتم تعليمه إلى نهايته. وكانت الأيام قد أنضجته وتقدمت به فساعده ذلك على أن يصمد لتجارب الحياة وأن يستوعب جيدا دروسها القاسية.

ودخل المازني المدرسة الخديوية وهو على أعتاب الشباب. ولعل هذه الفترة - فترة الدراسة الثانوية - كانت بداية التكوين الحقيقي للرجل الذي صاره من بعد. ولعلها كذلك كانت بداية ميله إلى القراءة والأدب، فما كانت الدراسة الابتدائية لتسمح بإظهار مثل هذا الميل، فضلا عن أن سنه لم تكن تهيؤه قبل ذلك للقراءة لواسعة أو الصبر عليها.

ولا يشير المازني كثيرا إلى فترة دراسته الثانوية فيما كتب عن ذكريات طفولته وصباه، فلعلها قد تقضت في الجد الصرف من ناحية مشقة التحصيل، وفي محنة قاسية من شظف الرزق والمعيشة. على أنه يحدثنا أنه أخريات هذه الفترة_وكان قد بلغ السادسة عشر اعترضت الحمى طريقه وألحت وطأتها عليه، وقضى طيلة صيف ذلك العام وهو يعاني وقدتها. ويقول (في إحدى الليالي ثقلت علي وطأة المرض جدا، حتى جزعت أمي على ما أخبرتني بعد ذلك، وكادت توقن إني هامة اليوم أو غد، لولا أن الأم لا تفقد أملها. وكنا في بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبا، وكانت نوافذ الحجرة التي أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة في الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قليل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمي يدها إلى قلة تريد أن تشرب، ففلتت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمي واضطربت جدا، وكبر في ظنها أن هذا نذير بموتي، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء في فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت. . ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء، ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة. وقد حدثتني أمي بعد ذلك وهي تروي لي هذه القصة أنها بكت وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل، والرطوبة والوحل، وفي يدها القلة، والدموع تنهمر من عينيها؛ دموع الأمل والاستبشار. وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت مني وأنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>