تسلمهم إليه فاعتقلتهم ولم ينكر كرد علي شخصيته ولم ينكر ماضيه وقال:
(ولكنني منذ عبرت نهر بروث على أثر الموقعة لم أمد يدي على أي إنسان، وقد يكون الأتراك وأهل مولدا فيا محقين في عداوتهم إياي لأني كنت أقطع الطريق عليهم، ولكنني ضيف على الروس فلماذا يسلمونني إلى أعدائي؟)
وبعد هذا القول لزم الصمت وانتظر في هدوء ما تقضي به الأقدار في شأنه. ولم يطل أمد انتظاره فإن السلطات لا تنظر إلى قطاع الطريق نظرة العطف التي يلقيها عليهم الكتاب والشعراء لانصرافهم إلى الجانب الروائي من حياتهم. ومن أجل ذلك سيق كرد علي مكبلا بالحديد فكان يبدو من النظر إلى وجهه أنه ابن الثلاثين. وقد كان طويل القامة عريض الكتفين عظيم القوة عليه علائم الخشونة ونظراته زهو وسكينة.
ودخل غرفته في السجن موظف تركي أحمر الوجه أشيب الشعر يرتدي ثوبا عسكريا قد سقطت منه ثلاثة أزرار. وفي وجهه كتلة حمراء من اللحم مثقوبة تقوم في ذلك الوجه مقام الأنف. وكان في يده أوراق أخذ يتلوها وهو بين حين وحين ينظر إلى كرد علي وهو يصغي إليه باهتمام.
وبعد أن فرغ الموظف من القراءة طوى الأوراق وصاح في خشونة بأن يحمل السجين إلى مدينة جاسا، فالتفت كرد علي إلى الموظف وتمتم في صوت يتهدج، وقد تساقطت من عينيه العبرات وقد تغير شكله تغيرا عظيما؛ وعرته رعشة جعلت لأصفاده وأغلاله رنينا أزعج الموظف فتقهقر ثم صدع السجين بالأمر فاستسلم للجنود الذين حملوه إلى عربة جرت به في الطريق.
قال موظف صغير لذلك الموظف العسكري:(ما الذي قاله لك كرد علي؟) فأجاب وهو يبتسم: (لقد إلي أن أعنى بزوجته وبابنه اللذين يعيشان غير بعيد في مدينة كيليا وهي من قرى بلغاريا فإنه يخشى أن تؤذيهم الجماهير بسببه والجماهير حمقى.
ووصل كرد علي إلى مدينة جاسا فحوكم أمام الباشا فحكم بإعدامه، ولكنه أرجأ موعد التنفيذ إلى يوم عيد. وحجز المحكوم عليه في السجن إلى أن يحين الموعد.
وتولى حراسته في السجن سبعة أتراك هم في صميم أنفسهم لا يختلفون شيئا عن كرد علي لأنهم قطاع طريق مثله. ولذلك كانوا يحترمونه ويصغون في دهشة ولذة إلى ما يقصه