الشخصية الأصيلة. وقد بسط الأستاذ عبد العزيز جاويش موقف الإسلام من الحرية بسطا رائعا لا يخلو من تعمق وفهم لأسرار الشريعة الغراء. وهو يستدعيك إلى التسليم بما يقول حتى فيما يرى من رأي مخالف لرأي جمهور العلماء. وهذا الخلاف نفسه يجعلك تؤمن بأن الرجل نقي السريرة لا يرى إلا إلى عزة الإسلام والمسلمين.
لم يقصر الإسلام في ذات الحرية، بل دعا إليها، وجعلها أساسا لبناء المجتمعات وصيانة الأفراد، وأنحى على المقلدين باللوم العنيف، وراح يجأر بالدعوة إلى التفكر والتدبر، دون مشايعة لرأي موروث أو فكرة بذاتها، وقرر أن الذين لا يستخدمون أبصارهم ومسامعهم وقلوبهم فيما خلقت له هم كالأنعام بل أضل (ألهم قلوب لا يفقهون بها، أم لهم أعين لا يبصرون بها، أم لهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وأكثر من هذا أن الإسلام لم ير الإكراه في التعقيد، بل ترك الحرية لكل إنسان يختار من العقائد والمبادئ ما يشاء (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
وإذا كان لا إكراه في الدين، ولا إكراه على أتباع عقيدة معينة، فلم أباح المسلمون قتل المرتد؟ ولم شنوا هذه الحروب في صدر الإيلام على الذين شقوا عصا الطاعة وكفروا بالدين أو ببعض مبادئه؟ وهنا تجد الأستاذ عبد العزيز جاويش يجيب في صراحة تامة أن المرتد نوعان: نوع ارتد عن الإسلام أو بعض مبادئه من غير أن يعلن حربا أو يساند عدوا أو يدل على عورة في الجبهة الإسلامية، وهذا لا يجوز قتله، لأن آيات القرآن الكريم لم تشرع حكما يجوز أن نؤاخذه على أساسه، بل إن الإسلام يرى عدم الإكراه في العقيدة ولا على أتباع فكرة بعينها ولو كان هو هذه العقيدة أو تلك الفكرة. ونوع ارتد عن الدين، وصار حربا عليه، وأعان الكفار على المسلمين، ودل على مواطن الضعف فيهم وهذا يقتل ويحارب، لأن الشرائع المنزلة والوضعية قبل الإسلام وبعده أباحت قتل المحارب واتخذته عدوا. أما الذي حدث على عهد الخليفة أبي بكر، من قتل المرتدين ولو لم يحاربوا، فمرجع ذلك إلى أن الإسلام كان في أول عهده ضعيفا يخشى الانتقاض عليه والإيقاع به، ولذلك قتل كل خارج عليه بعد أن اعتنقه، حتى يأمن على نفسه في أول أمره.