للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد حمل الإسلام الزنادقة على حكم المرتدين. فالزنادقة قتلوا في أول الأمر زمن علي بن أبي طالب، لأن الإسلام كان يخشى الدسائس، وكان يعمل على أن يؤمن حياته وحياة أتباعه في هذه الفترة الأولى من حياته. أما بعد أن آمن، وقوى، واشتد، ولم يعد يخشى المكائد ولا الانتقاض، فلا يجوز أن يقتل الزنديق، كما لا يجوز أن يقتل المرتد، وإن كانا ينصحان ويستتبان أبدا، عملا بمبدأ الحرية الذي أقره الإسلام وحماه ودعاه إليه.

والإسلام لا يخشى العلوم المختلفة ولا المعارف الكونية. وهو الذي وسع فلسفة اليونان وحكمة الهنود ومعارف الفرس. ودفع المسلم إلى استقبال العلم من مشارق الأرض ومغاربها، عن المسلمين وعن غيرهم، لأن العلم الصحيح لا وطن له، ولأن العلم الصحيح من الحقائق الكونية التي لا تبدل، ولأن الحرية أصل كريم في الحياة الإسلامية (لذلك كان شأن القرآن إزاء العلوم، وقد كان من موسوعاتها العلوم العقليات من الرياضية والطبيعيات وما وراء الطبيعة، فهو الذي قام بالدعوة إليها، والترغيب في البحث عن دقائقها وأسرارها، وهو الذي ببركته وجد بين المؤمنين آلاف من أمثال: الكندي، ومحمد بن موسى الخوارزمي، ويحيى ابن أبي منصور، والعباس بن سعيد الجوهري وأحمد بن كثير الفرغاني، وجعفر بن محمد البلخي، ونصير الدين الطوسي، وثابت ابن قرة، وعمر الخيام، وابن سينا، وابن رشد، وأبي الحسن أبن الهيثم، وأشباه هؤلاء من فطاحل العلوم الرياضية والطبيعية والأثقال والموسيقى وغيرها).

لم يكن الإسلام إلا دينا حرا، يرعى العقل ويحترمه، ولا يميل إلى إلزام أحد شيئا. فهو واسع العلوم المختلفة والفلسفات المتباينة، وهو لا يقتل المرتد المسالم ولا الزنديق الذي يهادنه. وهو ندد بالمقلدين ودعا إلى التفكر والتدبر وإلى العلم الصحيح والنظر السليم. وأنت تعلم أن الكفار في أول العهد بالدعوة المحمدية قد طلبوا من النبي - على سبيل التحدي والتعجيز والمشاقة - معجزات كونية، كأن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، وكأن يرقي في السماء ولن يؤمنوا لرقيه حتى ينزل عليه كتاب يشهد بصدقه ورسالته، وكأن يكون له بيت من زخرف وجنات من نخيل وعنب قد فجرت الأنهار خلالها تفجيرا. وأنت تعلم أن النبي لم يجبهم إلى هذا، لأنهم يعجزونه، ولأنهم لن يؤمنوا مهما أتوا من المعجزات، ولأن الإسلام لا يريد أن يكبتهم ويحملهم على اعتناقه والإيمان به، إذ هو دين الحرية والاختيار

<<  <  ج:
ص:  >  >>