للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يقذف على جانبيه زبدا أحمر، وأخيرا استحال إلى نهر واسع يكتسح أمامه هذه الجثث.

ولكن كيف خرج كل هذا الدم الغزير من جروح أولئك الموتى حتى غمرهم؟ وعلى كل حال اضطر جنوص إلى التراجع أما تلك اللجة الصاخبة وقد غاب عن نظره الشاطئ البعيد، كأنما تلك المسافة المترامية الأطراف قد استحالت إلى بحيرة واسعة، حتى خطر له أن يفر لولا أنه وجد نفسه فجأة عند كوم من الصخور وأمواج الدم ترتطم بفخذيه، وكأنما الأشلاء التي يجرفها التيار أمامه تلعنه كلما أبصرت به في طريقها، وكأن كل جرح من جراحها فم يزدريه ويسخر من رعبه. أما البحر الزاخر فكان يعلو ويعلو حتى بلغ صدره، وعندئذ استجمع ما في نفسه من قوة وأخذ يتعلق بالفجوات التي بين الصخور حتى غاص إلى كتفيه والقمر الحزين الباهت ينظر كيف يبتلع هذا البحر أشعته كلما انعكست فيه، وكأن ظلمته ودويه يخرجان من فوهة هوة سحيقة.

- ٢ -

ولما بزغ الفجر عاد إلبرج فأيقظ جنوص وكان قد ضل السبيل في الإحراج فغلبه النوم أيضاً عند شجرة حيث رأى من غريب المشاهد ما كانت صورها لا تزال عالقة بذهنه.

قال: رأيت كأن العالم لا يزال في طفولته والسماء تبتسم والأرض بكر تنبت فيها السنبلة وتنمو، حتى أن شجرة البلوط العالية عندنا لا تعد بجانبها شيئا. الأشجار الباسقة تملأ الفضاء بأوراقها العريضة التي لا يحصيها عد؛ والحياة تجري صافية في شرايين الكون؛ والماء عذب غزير حتى إذا أخذت الأشجار كفايتها منه سال بين أحشاء الصخور.

وكانت الآفاق تمتد ساكنة متشعبة، والطبيعة كالطفل يجثو عند الصباح ليحمد الله على نعمة النور وتمجده هي أيضاً بأريج الأزهار وتغريد الأطيار.

كنت أراها زاهية خصبة تفيض بخيراتها من غير ما نصب، والأشجار ذات الثمر تنمو وحدها، وسنابل القمح تكسو جوانب الطريق كما يكسوها الآن الشوك. وكنت أستنشق الهواء فلا أشعر بأن عرق ابن آدم أخذ يتصبب فيمتزج بأنفاس السماء، لأن الله كان يهيئ كل أسباب الحياة لخليقته.

كان الإنسان كالطير يعيش مما تخرجه له الطبيعة فيأكل من ثمارها، ويرتوي من أنهارها، وينام إذا دجا الليل تحت أشجارها حامدا الله؛ وقد عافت عيناه مرأى الدم، فظل طاهرا،

<<  <  ج:
ص:  >  >>