للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورفعته طهارته فوق جميع المخلوقات.

نعم كان الوئام سائدا بين الناس، والسلام خافقة رايته في كل مكان؛ حتى أن الطيور ما كانت لتحرك أجنحتها فزعا من الخوف، ولا كان البغي يدفع أحدا إلى الالتجاء للغايات والأحراج، كل له حصة من حرارة الشمس، والجميع أسرة واحدة شريعتها المحبة.

ولقد خيل إلي وأنا أمشي بين الناس أنني أصبحت أطهر وأقوى مما أنا عليه الآن؛ وكان صدري يستنشق طويلا نسيم تلك السماء البليل بعد أن كان يستنشق نسيم جونا الفاسد، فأشعر بنشوة الطفل وهو يصعد رويدا رويدا في الفضاء.

وبينما كانت هذه الأحلام تهزني انتقل خاطري إلى غابة فوقع بصري على رجلين يقطعان طريقا ضيقا تعانقت من فوقه غصون الأشجار، وكان أصغرهما متقدما على رفيقه ووجهه يفيض بالاطمئنان، ونظراته تداعب كل سنبلة تقع عليها عينه، وهو بين لحظة وأخرى يلتفت إلى زميله وعلى شفتيه ابتسامة صافية لم تكن غير ابتسامة أخ.

أما زميله فكان صامتا يرسل إليه وجهه المكفهر نظرات حارة ملؤها الحقد، وهو يتعثر كلما أسرع من خلفه كأنه يقتفي أثر فريسة فرت منه.

وعندئذ قطع فرعا من شجرة أخذ يسوي منه هراوة أخفاها تحت ثوبه، ثم اندفع وراء صديقه الذي وقف ينتظره وقد أخذ يقبله عندما اقترب منه كما يقبل الإنسان صديقه حميما طالت غيبته عنه.

وهكذا عاد إلى سيرهما وقد آذنت الشمس بالمغيب، والفتى مسرع وهو يبصر من بعيد خطا لطيفا أصفر عند سفح الجبل لم يكن غير تحية المساء ترسلها الشمس للطبيعية. أما صاحبه فظنه يتهرب منه، حتى إذا التفت إليه وعلى طرف لسانه كلمة حلوة أراد أن يستر غرضه بها كانت الهراوة على وجه ذلك المسكين فهشمته.

ولقد صادفت أول نقطة من دمه بعض الحشائش فنفضتها عنها إلى الأرض مرتاعة فامتصتها هذه وهي لا تقل ارتياعا منها؛

وقد خرج من بين أحشائها أنين مؤلم يحمل إلى السماء صوت سخطها ومقتها حيث طفح الرمل ذلك الشراب القاتل على صورة زبد خالطه دم.

وما كاد القتيل يصرخ من ألم الضربة حتى تشتت الخلائق هولا، وأخذت تهيم على وجهها

<<  <  ج:
ص:  >  >>