للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في الأرض، وأقوياؤها في مفارق الطرق يصرعون الضعفاء منهم. وعندئذ أيقنت أن الكون قد بدأ فيه نذير الاضطراب والانحلال.

وهكذا استعرضت عيناي مناظر هذا الاعتداء المطرد، فكان الباشق يهوى على القبرة، وهذه على الذبابة، والذبابة على جروح القتلى؛ فلم يترك الفزع أحدا من الدودة إلى الأسد كأنما قد استحالت الخليقة إلى عقرب أخذت تعض ذنبها بفمها فغابت في ظلمة الفناء.

وعلى أثر ذلك انتابت الطبيعة هزة طويلة كسرت خط ذلك الأفق الصافي، وشوهت جمال الشفق بما اعترضه من السحب الحمراء.

وكذلك البحار أخذت تضطرب بين قصيف الأمواج وهزيم الرياح من خلال الأشجار وقد التوت سيقانها وأخذت تنفض عنها كل سنة حلة اوراقها.

- ٣ -

وما كاد إلبرج ينتهي من حديثه حتى ظهر كليريان وهو يقول: لست أدري إذا كان ما سأقصه عليكم حلما أو حقيقة، لأن ما رأيت في نومي يكاد يكون حقيقة، ولأن الحقيقة من بعده تكاد تكون حلما.

رأيت كأنني في طريق يشق المسكونة على جانبيه المدن والأمم تقطعه مثلي، وهو مكسو ببلاط اسود انعقد فوقه دم كانت قدماي تنزلقان من فوق.

أما الناس فقد كان الآباء منهم يقتلون بناتهن ليكون من دمائهن قربان لله، فكانت تلك الرؤوس الفتية الجميلة تحز تحت مداهم وقد هرب لونها على أثر هذه القبلة التي كانت شفة الموت تضعها عند أعناقهن.

وفي مكان آخر كان العذارى يصن عفافهن بالانتحار جاعلات من القبور الكفن لبكور تهن.

وعلى مسافة من هذا المكان كنت أرى العشيقات تفيض أرواحهن تحت قبلات المحبين، هذه تنوح ثم تسقط جثة هامدة عند الشاطئ وعيناها تنظران إلى روحها وهي تصعد حاملة معها مهجتها، وتلك تتجرع كأس الموت على صدر رفيقها مطوقة عنقه بذراعيها تودعه الوداع الأبدي.

وكذلك كنت أرى من بين الناس من سئموا الحياة وملوها فودعوها لعل أرواحهم تذوق طعم النعيم في عالم آخر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>