وإنه لم يجاوز نطاق مقال واحد الإلمام بجميع نواحي كروتشه والإحاطة بفلسفته التي قسمها إلى أقسام أربعة: فلسفة الجمال، والمنطق، وفلسفة السلوك (الاقتصاد والأخلاق)، وفلسفة التاريخ وهو يراها في مجموعها وحدة لا تنفصم، وتشمل كافة مظاهر الوجود الإنساني.
ولكن لا أقل من أن نلم في هذه العجالة بشيء من آراء كروتشه في فلسفة الجمال. ولعل اقتصارنا على جانب واحد من جوانب هذه الفلسفة الخصبة (فلسفة كروتشا) أكثر فائدة من مرورنا على عجل بكل جوانبها في حدود ما يقتضيه المقام من إيجاز.
بسط كروتشه مذهبه في فلسفة الجمال في كتابه الذي ظهر سنة ١٩٠٢ (وطبع بعد ذلك طبعات عديدة وترجم إلى أكثر من لغة أوربية) ثم في كتابات متفرقة أهمها المجموعة التي نشرت بعنوان (مقالات جديدة في فلسفة الجمال)(باري سنة ١٩٢٦).
ليس كروتشه من أنصار فكرة المثل الأفلاطونية، وهو لا يرى الفن كما كان يراه أفلاطون محاولة لتقليد مثال الجمال الذي تحسه النفوس من بعيد مجردا عن موضوعاته وتسعى عن طريق الفن بمختلف صوره إلى الوصول إلى شيء من ذلك المثال، فكروتشه يرى أن الجمال - أو الفن - هو وموضوعاته شيء واحد، فهو من المنادين بالوحدة بين الجمال وبين موضوعه أو بين الفن وبين العمل الفني.
يقول كروتشه إن الأفكار القبلية كفكرة الجمال أو الفن ليست موجودة في ذاتها وإنما هي موجودة في الموضوعات المتعددة التي تتجلى فيها، والجمال أو الفن ليس مثالا بعيدا عن الإدراك تعجب به النفوس في ذاته! وإنما هو نفسه الأشياء الجميلة أو الأعمال الفنية التي يخطئها الحصر والتي وجدت وتوجد وستوجد في هذا العالم المتغير.
ومن هذه الوحدة بين الجمال وموضوعاته وبين الفن والأعمال الفنية يخرج كروتشه بتجديد مهمة فلسفة الجمال لا على أنها (كما كان مسلما) تعريف الفن تعريفا يسمح بمعرفة قوانين الجمال الأزلية التي تحكم كل مظاهره، وإنما على أنها محاولة دائمة لتنظيم وتبويب مظاهر الجمال الفني التي تتعدد وتتسع على مر الزمن، فهي بهذا الوصف علم متجدد نام دائما أبدا.
والعمل الفني عند كروتشه ليس هو الشكل المادي الذي يتجلى فيه ذلك العمل للناس ويبقى فيه على الدهر كالألفاظ في الشعر وكالخطوط والألوان في التصوير، وإنما العمل الفني