الأصيلة! فتلقف قطب الفكرة! وملأ بها كتابين كبيرين! وهذا يذكرني بما يقوله بعض الناس في معرض الفكاهة والتندر، من أن أوربا لم تخترع الطائرة، وليس لها أي فضل في اكتشافها على الإطلاق، إذ أن الجوهري وعباس بن فرناس قد هما بالطيران في يوم من الأيام، ثم أخذ الغرب الفكرة وادعاها لنفسه دون أن يقوم بمجهود!! وهكذا أخذ قطب مقالة الأستاذ العقاد فأفرغ فكرتها الموجزة في كتابين كبيرين، فيا للسطو الشنيع والجريمة النكراء!!
ثم ماذا؟ لقد لجأ الكاتب بعد هذه المقدمة إلى نقد كتاب العدالة، فأدهشني أن يعمد إلى التشويه دون أن يحترم عقول القراء؛ فهو حين يدلل على ضحالة قطب يزعم أنه استشهد بقوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ليبين أن الإسلام لا يعادي العلم كغيره من الأديان. وهذا غير صحيح؛ إذ أن قطبا يعرض بعض الخصائص الحية في الدين الإسلامي، فيذكر أنه لا يعادي العلم، ولا يكره العلماء، وأنه لا يعتمد على الخوارق والمعجزات، ولا يقوم على الغيبيات في صميمه بل يقوم على المشاهد والتأمل والنظر في الكون. ثم يذكر النصوص الدالة على ذلك من القرآن، ويعقب عليها بقوله: وذلك طبيعي في دين يربط التقوى بالعلم، ويجعل العلم سبيلا إلى معرفة الله وخشيته (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فليت شعري كيف يكون الاستشهاد بالآية بعد ذلك دليلا على أن الإسلام لا يعادي العلماء؟ وأين تكون الضحالة إذن؟ أهي عند الكاتب المظلوم، أم لدى الناقد الممتاز؟
والمثال الثاني الذي استشهد به الناقد في مضمار الضحالة أعجب وأغرب من سابقه! فهو يزعم أن المؤلف يعالج المسائل الكبرى في تاريخ الإسلام ببساطة عجيبة، (حتى ليردها إلى محض الصدفة، ولا يكلف نفسه التغلغل في العوامل الاجتماعية والتيارات النفسية التي تعمل بقوة في مد الإسلام وجزره)، يقول الناقد ذلك، وتنتظر منه أن يدلك على مأخذ هام عرض له فلا تجد غير ما يضحك ويدهش؟ فقد استنفد الأستاذ قطب عشرات الصفحات في إيضاح حقيقة الإسلام في عصر الرسول وخلفائه الراشدين؛ وأسهب في دراسة دعائمه الراسخة في الحرية والعدالة والمساواة، ثم عرض إلى الحكم الأموي فأوضح ما دار على مسرحه من مآس دامية لا ترجع إلى طبيعة الإسلام بل هيأت لها المصادفة التعسة! أجل لقد فعل الأستاذ قطب ذلك وتدرج مع قارئه في التاريخ تدرجا منطقيا، ولكن كلمة المصادفة