للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الروسية في بعض جوانبها، وقد أصبح اسم بطلها بازاروف علما على المذهب الفكري والسياسي الذي ابتدعه تورجنيف ودعاه باسم النهلزم بمعنى الفوضوية أو العدمية.

ويذكر الأستاذ العقاد ما كان لقصة سانين من الإيحاء والتأثير في نفس المازني فيقول (لست أنسى هزة وجدانه بأفاعيل سانين مع إنكاره لتلك الحيوانية اللجوج التي مثله بها مؤلف القصة. . وأنه كان يردد بعض (لوازم) سانين في كلامه بعد قراءتها. ويقول العقاد (إن القصة الروسية من أقوى المؤثرات في نزعته التي جنح إليها بقوته كلها فيما نسميه بفلسفة الحياة).

والحق أن المازني كان أقرب ما يكون إلى خصائص أبطال القصة الروسية، من طراز سانين وبازاروف، الذين يواجهون الحياة بالاستخفاف وقلة المبالاة، ويعيشون بالقدرية ويعولون على مفاجآت الغيب وحساب المجهول، ويجمعون بين نقائض الطبائع الإنسانية، فلا يزالون أبدا مترددين بين الروحانية والجسدية، وبين الزهادة والطموح، وبين الكلبية المتهانفة والغرارة الساذجة. وقد عصمت المازني بيئته المحافظة ونشأته الدينية من أن يتأثر بالناحية الدنيا في تلك الخصائص الروسية، ووسعه أن يأخذ عنها أشبه تلك الخصائص به وأقربها إلى طبعه ومنحاه، وهي نزعة الاستخفاف وقلة المبالاة. فكانت هذه النزعة بعد سلاحه في مواجهة ما تأزمت به نفسه من أحداث تلك التجربة، وبقيت إلى آخر أيامه سلاحه في مواجهة الحياة، وبه غلبها ولم تغلبه.

وكأن ما امتحنته به تلك التجربة - من الإصابة بالعرج، ثم هجر التعليم والتعطل الذي أعقبه - كان من توفيقات المقادير التي تغم الحكمة فيها على الإنسان قبل أن تتبدى صفحتها من مستقرها في عالم المجهول.

كان المازني قد أوفى على الثلاثين، وشب عن الطوق جدا فيما يحس، وارتفع، كما يقول، (عن كل حداثة ارتفاعا أجلسني على ربوة الحياة حيث تنازع السحب الضياء)، ووقف يستقبل الكهولة التي طرق بابها قبل أن تطرق بابه، والتي تزود لها بزادين من عمل النشأة؛ فليس أقرب إلى الكهولة وألصق بها ممن يحرم في سنه وميعته قراه من الطفولة والشباب، ومن يدركه بلاء التجارب وهو غر لا يفيد منها غير الجهد والعناء.

وقد عرف القارئ كيف ودع المازني طفولته قسرا وقطعها وثبا، وكيف أكره نفسه على

<<  <  ج:
ص:  >  >>