كبح عواطفها الساذجة وكبت نزعاتها البريئة في غير رفق أو رحمة. ولا شك أنه ظل منطويا على هذا الشعور بالحرمان من أسعد فترات الحياة وأنضر عهودها حتى جر عليه هذا الانطواء أن أضاع شبابه في بيداء السلبية ومهمة التشاؤم ومقارفة العزلة والتوحد وتلقي الحياة باحتفال الموسوس الممرور.
ثم كانت تلك التجربة النفسية وما طبعته عليه من مواجهة الحياة بالاستخفاف وقلة المبالاة، وكانت معها المعجزة الكبرى في حياة المازني الذي كان يشرف على الكهولة يوم ذاك.
أشرف على الكهولة ليجد نفسه من جديد أمام طفولته التي زايلته، تعاوده بأخص خصائصها في طابعها القديم، وإن تكن قد عادت ناضجة واعية أشد تمرسا بالحياة وأكثر فهما وتجربة.
وليس بالعسير تفسير هذا الارتداد أو هذه الرجعة إلى الطفولة، ولا يحوجنا الأمر فيما نرى إلى استشارة علم النفس التحليلي أو تطبيق مناهجه ومقاييسه فيما كتب علماؤه المحدثون، فهي ظاهرة طبيعية وليست حدثا خارقا أو شذوذا غير مألوف.
. . . طفل أكرهته الحياة على أن يكبت في نفسه كل إحساس بالطفولة - على فرط إحساسه بها - وأن يطرح عنه كل ما يمت إليها من دوافع ونزعات، فاستقرت طفولته في أعماقه مكبوتة أو مكرهة على الكبت، تترقب المناسبة التي تطفر فيها من قرارها وتلبس إهابها السليب.
وقد سنحت هذه المناسبة المرتقبة في حياة المازني بتصحيح النظرة إلى الحياة والنقلة من المبالاة والاحتفال إلى الاستخفاف وقلة الاكتراث، فعاودت طفولته ظهورها وعادت سيرتها، ولا بست بنية الكهل المجرب فيه روح الطفل الغرير.
صورتان جد مختلفتين: أولاهما صورة شاب يعارض الحياة معارضة الإذلال، ويثور عليها لأنه يباليها ويحفلها غاية المبالاة والاحتفال، ويتراءى في إهاب أقرب إلى الشيخوخة المنطوية لولا ما يتسم به من ثورة السخط والزراية على الحياة والأحياء.
والثانية سورة كهل يصدر في مطالبه ورغائبه وفي جده وهزله عن منازع هي منازع الطفولة في صميمها، بل تزيده السن فرط غرارة واندفاع وحماس. . كهل يركب الحياة بالسخرية والاستخفاف، ويسالمها غير مضطر أو مغلوب! أو هو يقلع عن معارضتها لأنه قد ملأ يديه منها، وكأنه يقول لها بلسان الحال إنني لا أحفلك ولا أباليك منذ الآن، فسيان أن