نلتقي على حرب أو سلام، وعلى ود أو خصام، فعلى هذا وذلك نحن ملتقيان!
وقد قابل المازني بين هاتين الصورتين لذينك العهدين من حياته، ولم يخف عن نفسه، ولا عن الناس، موقع هواه وموضع ميله منهما. ونحن نؤثر أن ننقل هنا معالم الصورتين كما خرجتا عنه، مع تفسيره الذي ارتاح إليه في تعليل رأيه؛ فهو يقول:
(الكهولة والشباب عهدان مختلفان في كل شيء، ولك أن تقول إنهما يجعلان من الإنسان الواحد إنسانيين متميزين، لا يشبه أحدهما صاحبه، لا في المخبر ولا في المظهر. فأنا في كهولتي إنسان جديد من كل وجه، لا يشبه ذلك الإنسان القديم الذي كان أيام الشباب، فقد ذهب ذلك الإنسان إلى غير رجعة، وذهب معه كل ما كان له من خصائص وصفات وسمات ومعارف ونزعات وآمال وألام ومخاوف ومطامع وشهوات إلى آخر ذلك، وحل محله هذا الكهل الذي يدلف إلى الشيخوخة).
(ولك أن تقول أيضاً إن الشباب والكهولة معنيان في النفس. فإن منا من يخطئ معنا الشباب في عهده المألوف ثم يجده في غير أوانه. وهذا ما وقع لي، فما عرفت معنا الشباب، ولا ركبت به ما يركب الناس به، لأني امتحنت في صدر حياتي وغضونة سني بما تركني أحس كأن الدهر كله عمري. ودارت الأيام وكبرت، وازددت بالدنيا وبالناس معرفة وبنفسي أيضا، فإذا كل شيء يتغير، التشاؤم انقلب تفاؤلا واستبشارا، والضغن أصبح عطفا ورقة قلب وحبا للحياة والناس، وكنت أضنني لن يطول عمري وأحمد الله على هذا وأسأله في سري أن يعجل بالراحة الكبرى وإن كنا لن ندري بأنا فزنا بها، فإذا بي واثق أني سأكون من المعمرين جدا، وإذا بي قد صرت أحرص الناس على حياتي، بل إذا بي أشعر شعورا قويا أني رددت شابا وإن كان رأسي قد شاب ولم يبق فيه سواد، وأذهلني هذا الشعور المستغرق عن سني التي لا تكف عن الارتفاع)
وإذا كان لنا أن نعقب على هذه المقابلة الصادقة بشيء، فهو إن ذينك العهدين، في حياة المازني وأدبه، قريب من قريب، وإن عهد الشباب والثورة ومعارضة الحياة كعهد الكهولة الطفلة المجرب؛ قوة إحساس وفيض عاطفة وشعور.
فلم يكن المازني الشاب ليعارض الحياة أو يتنكر لها إلا وهو متعلق الرجاء بها قوي الرغبة فيها. وما كان سخطه وثورته إلا دالة يدل بها الشباب على الحياة فلا تتجاوز التبسط في