لهذا الصندوق المقفل أن يفتح ويعرض ما فيه على العالم فيختار الأحسن! ويشاء القدر أن تعجز هذه الجبال التي حمت الهند من الشمال أمام حيل الإنسان وتفكيره فتدخل جنوب الإسكندر من ممراتها الشمالية الغربية كما دخلتها جنود الإسلام فيما بعد. وقدر للمسلمين أن يضعوا أساس إمبراطورية عظيمة كانت لها فيها السيادة على الهند، ولكن هذه السيادة التي دخلت من ممرات الشمال الغربي ضعفت أمام الاستعمار الأوربي الذي أخذ يطرق أبواب الهند الساحلية فتمت الغلبة أخيرا بعد نزاع بين القوى البرية والقوى البحرية ودخل الاستعمار الإنجليزي الهند بعد أن مهدت لذلك شركة الهند التجارية.
سيادة مصر والصين والهند وبابل وأشور كلها من نوع يمكن أن نطلق عليه (السيادة النهرية) لأن وجود الأنهار في هذه البلاد كان العامل الأكبر في نهضة أهلها وإن كان لكل منها طابع خاص حسب ما امتازت به من عوامل جغرافية أخرى. ولكننا هذه المرة أمام شعب آخر هو شعب الفينيقيين الذي شق لنفسه السيادة عن طريق البحر. فالبحر الأبيض المتوسط بموقعه يتوسط العالم القديم، وهو بحر داخله يكاد يكون مغلقا لذا كانت مياهه هادئة معظم فصول السنة لا نرى فيها ما نراه في المحيطات وبعض البحار الأخرى من اضطراب وأمواج عالية. وهو صالح للملاحة طول السنة لا تتجمد مياهه كبقية بعض البحار الأخرى. يمتاز بكثرة بحاره الداخلية المتفرعة منه وبكثرة أشباه الجزر والجزر التي يندر أن يختفي اليابس عن نظر المسافرين فتتولد في نفوس عابريه روح المغامرة والمخاطرة لشعورهم بالأمن فيه، ولذا كان خير مدرسة لتخريج خير الشعوب البحرية وكان في مقدمة هذه الشعوب الشعب الفينيقي. وكان للفينيقيين من بيئتهم الجغرافية ما جعلهم أساتذة للبحرية، فبلادهم ذات سهل ساحلي ضيق تشرف عليه جبال عالية تفصلهم عما وراءهم من بلاد داخلية، ولذلك أعطوها ظهورهم واتجهوا بأنظارهم إلى البحر حيث الأفق الذي لا يحد وحيث تجد غريزة حب الاستطلاع مجالا لها فاندفعوا إلى البحر، وكان لهم من مميزاته التي سبق ذكرها ما جعلهم يتفوقون بعد أن أتقنوا فن الملاحة فطافوا بسواحل البحر الأبيض المتوسط وأنشئوا المحطات التجارية فيه وتاجروا بين أقطاره المختلفة. غير أنهم كانوا في كل ذلك يتخذون من المياه الساحلية طريقا لهم ولم يعملوا على توفير الوقت باختصار المسافات شأن كل شيء في بدايته، حتى إذا تخرج على أيديهم اليونان فاقوا