أساتذتهم في هذا المضمار وانتقلت إليهم السيادة البحرية لأنهم وجدوا فيها حياتهم فأتقنوها! ذلك أن بلاد اليونان شبه جزيرة جبلية تقل فيها السهول وتكثر بها الجبال والخلجان البحرية والجزر بشكل واضح، فاتخذوا من هذه الجزر والبيئة البحرية معاهد لتخريج ملاحين مهرة بعد أن تلقوا مبادئ هذا الفن على أساتذتهم الفينيقيين، وساعدهم هذا الفن على التغلب على ما في بلادهم من فقر فاتخذوا من صيد السمك مهنة لكسب عيشهم كما اتخذ فريق منهم السفن وسيلة لنقلهم إلى البلاد الأخرى التي هاجروا إليها لضمان حياتهم فنشروا معهم فنهم وطابعهم الخاص في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط؛ كما لجأ بعضهم إلى احتراف الجندية فكانوا جنودا مرتزقة يحاربون في صف من يضمن لهم الحياة. أما غالبيتهم فقد اتخذوا القرصنة حرفة فسادوا البحر وتحكموا بمسالكه. وهكذا عاش اليونان في البحر وعن طريقه تملكوا زمام القوة. وكان لا بد لهذه القوة البحرية أن تصطدم بالقوة البرية التي كانت هي الغالبة حتى ذلك الوقت، وكانت معركة سلاميس البحرية هي فصل الختام في النزاع الذي قام بين الفرس واليونان، وكان لا بد للفرس من الهزيمة لأنهم أساءوا اختيار ميدان الحرب وأعطوا الفرصة لليونان لإظهار سيادتهم البحرية.
ظلت القوة البحرية صاحبت السيادة وظل اليونانيون أصحابها إلى أن ظهر في هذا الميدان من نافسهم وانتزعها منهم. والحق أن الفينيقيين كما كانوا أساتذة للإغريق كان الإغريق أساتذة لغيرهم، فهم الذين وضعوا نواة نهضة روما التي سرعان ما ظهرت للوجود كقوة لها مكانتها الخاصة لما يحيط بها من ظروف جغرافية ساعدتها على توحيد إيطاليا بزعامتها، فتطلعت للخارج وكبر على نفسه أن تكون سجينة في البحر الأبيض وهي التي تتوسطه وتتحكم في حوضه ولها من سواحلها الطويلة ما يجعلها عرضة للخطر، وكان لا بد لها من أن تتغلب على ما عاداها من دول أخرى منافسة حتى تضمن حياتها، وسرعان ما تم لها الأمر وهزمت قرطاجية واستعمرتها، كما تغلبت فيما بعد على دول البطالة وملكت مصر. وهكذا أصبحت روما سيدة البحر الأبيض وحق لأهلها أن يقولوا إلا أن روما في هذه المرة استطاعت الجمع بين القوتين البرية والبحرية وكان لها في سرعة انتقال جيوشها ما جعلها تتغلب على أي خطر تستهدف له؛ ولم تأت هذه السرعة إلا عن طريق مد الطرق والاهتمام. بها وما زالت باقية هذه الطرق المعروفة بالاسترادا موجودة في كثير من البلاد