للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وسرعان ما تفوق العرب في الميدان البحري واندفعوا في هذا الطريق حتى تسمي البحر الأبيض المتوسط باسمهم؛ ولم يقتصر نشاطهم على هذا البحر بل اتجهوا بسفنهم إلى البحار الدفيئة الجنوبية فكانت لهم فيها السيادة كذلك! وما وصول الإسلام وانتشاره في جزر الهند الشرقية إلا بقية من نشاط تجارهم الذين سادوا تلك البحار.

هكذا لعب البحر الأبيض المتوسط دوره في نهضة الشعوب وهكذا كان مدرسة لتخريج المغامرين الذين اندفعوا يستطلعون ما وراء أفقه، فكان كشف طريق رأس الرجاء الصالح وكان كشف الأمريكيتين وكان تحول آخر في تاريخ الإنسانية بهذه الكشوف وكانت السيادة المحيطية يعد أن كانت السيادة للبحار. ذلك أن البحر الأبيض المتوسط أصبح لا يتمتع بما كان يتمتع به من مركز ممتاز بتوسطه بين العالم إذا انتقلت هذه الميزة إلى المحيط الأطلسي فأصبح له الدور الأول في تاريخ الإنسانية، وسرعان ما تبع ذلك انتقال السيادة من دول البحر الأبيض المتوسط إلى دول غربي أوربا التي كان لها بفضل موقعها ما دفعها إلى العالم الجديد واستغلاله، وتشاء الجغرافية أن يصحب هذا التحول في السيادة تحول آخر في دعائمها! إذ كانت سيادة دول البحر الأبيض سيادة تعتمد على الإنتاج الزراعي قبل كل شيء! وإن وجدت بعض الصناعات فهي لا تتعدى استخراج الزيت وعصر العنب. أما الصناعة بالمعنى الذي نفهمه اليوم فكان ظهورها بظهور دول غربي أوربا وانتقال السيادة إليها. ذلك أن وفرة الفحم والحديد إلى جانب ما تتمتع به موقع جغرافي بعد كشف العالم الجديد جعلها الميدان الأول للإنتاج الصناعي فكان لها الصدارة بين دول العالم، وكان لا بد لهذه الدول أن تحصل على المواد الخام الزراعية اللازمة لصناعاتها وأن تجد الأسواق لتصريف ما تنتجه، فتسابقت إلى الاستعمار مما أدى إلى التنافس بينها وقيام الحروب، وما تاريخ دول غربي أوربا في العصر الحديث إلا سلسلة من هذه الحوادث المتتالية. وكان لا بد أن تكون الغلبة للدولة التي تعتني بقوتها البحرية وتزيد من سرعة سفنها، فظهرت عابرات المحيطات لقطع المسافات الطويلة بعد أن كانت البحرية لا تعرف إلا السفن الصغيرة والمراكب الشراعية، وكانت بريطانيا في مقدمة هذه الدول وكان لها في موقعها الجغرافي ما جعلها تختط لنفسها سياسة معينة! فهي متطرفة الموقع بالنسبة للقارة الأوربية لذلك لم تشترك في المشاكل الخارجية إلا بالقدر الذي مس مصالحها، ولما كانت هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>