للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن الذي نعيش فيه اليوم حياة قد مهد لها جبابرة الدهاة؛ لا أقول منذ عام أو عامين، بل منذ أكثر من مائتي عام. حطم كل شئ قليلاً قليلاً حتى خر البناء كله. ثم انبعثت من تحت الأنقاض حياة خبيثة تلبس إهاب البشر. غذيت بالسم الذعاف حتى صارت لحماً وسما. لا لحماً ودماً؛ ولا يعنيك أو يعنيني أن ننظر: أهي تعرف نفسهاوتدرك أنها مسخت أفاعي في مسلاخ إنسان، أم تراها لا تعرف ولا تدرك؟ بل يعنينا - ويعنيها هي أيضا - أن نصدق المعرفة أنها حيات تنفث سمها في حياة الناس؛ في حياة الغافلين النائمين. فمن استعصى عليها فتكت به؛ ومن أطماع لسمها مسخ كمثلها حية تسعى. فإذا قدر لهذه الحيات أن تبلغ الغاية التي مسخت لها؛ فلن يتم ذلك حتى تكون الأرض العربية والإسلامية كلها خراباً من البشر الأحرار؛ خراباً تعمره العمار من أفاع وحيات وأصلال.

من مخافة هذا اليوم كنت أكتب قديماً ما استطاع هذا القلم أن يكتب، ثم وجدتني فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، وضلالات الرأي المدلس، وضلالات السياسة الخداعة. وإذا الأرض من حولي تعج بترتيل مظلم مخبول؛ وإذا السماء من فوق تهتف بتسبيح كالح مزور؛ وإذا صوتي يضيع في سمعي؛ فهو إذن في أسماع الناس أضيع؛ وتردد في صدري شعر الحكمى؛ فاستمعت له وسكت:

مت بداء الصمت خير ... لك عن داء الكلام

إنما السالم من ... ألجم فاه بلجام

فلما دعوتني فأجبت، انقلبت أسائل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟ إن بيني وبين الأسماع والأبصار والقلوب، حجاباً صاخباً من غماغم الدجاجلة، وهماهم الأفاكين، وثغاء أهل الغش، وضغاء أخدان النفاق. . . ويذهب قولي باطلاً ويضيع صوتي مختنقاً، ولم أجن عندئذ عن حياتي إلا شقاء يقول فيه القائل: (إن الشقي بكل حبل يخنق)، حتى حبل الحق والصدق!. وإنك لتعلم: أن لو أني عرفت للكتابة ثمرة، لما توقفت ساعة، ولما أبطأت دون ما وجب على

بأي لسان أستطيع أن أفتق للناس أسماعها غير الأسماع التي طمها الكذب المسموع؟ وبأي قلم أستطيع أن أسلخ عن العيون غشاوة صفيقة لبسها الكذب المكتوب؟ وبأي صوت أستطيع أن أنفذ إلى قلوب ضرب عليها نطاقمن الكذب المسموع والمكتوب؟ وبأي لسان، و

<<  <  ج:
ص:  >  >>