من معاقل الكفاح؛ الكفاح ضد قسوة البشر ووطأة الحياة! ولقد ماتت وحيدة؛ لا همسة عطف من الابن، ولا نظرة رثاء من الأم، ولا موعد لقاء مع رحمة القدر. . وحين انتهى كل شئ، وسكنت كل حركة، ودفنت في تراب الموت كل خصومة، استطاع فرنان كازيناف أن يصعد إلى حجرة الشهيدة، وأن يحس لذع الندم، وأن يوجه إلى أُمه كلمة عتاب!!
ويا لها من لحظة تلك التي يصور فيها مورياك موقف الزوج النادم أمام الجثة المسجاة. . إنها اللحظة النادرة من لحظات (التذوق) العميق لمشهد من مشاهد الحياة منعكساً على صفحة النفس والشعور. لقد وقف فرنان أمام جثة الشهيد وكأنه يقف أمام قديس يعترف له بما جنت يداه، بما اقترف من إثم، بما حمل من ذنوب. . رباه! من أغمض عينيه كل تلك الأعوام فلم ير هذا الجمال؟ ومن أغلق قلبه كل تلك السنين فلم ينعم بهذا الصفاء؟ وهذا الطهر، وهذا الصبر، وهذا الإيمان؛ هذه القيم الإنسانية من حال بينه وبينها حتى لكأنه يبصرها لأول مرة، ويستشعرها لأول مرة، وينكشف له منها في لحظة عابرة ما غاب عنه فيما مر من أيام دنياه؟! آه لو يستطيع أن يفعل شيئاً لهذا الجسد؛ الجسد الذي احترق في موقد العذاب، وتألم، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ شيئاً ولو كان صغيراً ضئيلاً لا قيمة له، يشعره بأنه قدم إليه في رحاب العدم ما عجز عن أن يقدمه في رحاب الحياة؟! إنه يريد الآن أن يعبر للجسد المسجى عن عطفه؛ عطفه الذي لم يستطع أن يعبر عنه في يوم من الأيام! ولقد قدر له أن يعبر عن هذا العطف حين خطر (لذبابة هائمة أن تستقر على الوجه النبيل). . لقد انتفض كالمصعوق ليرد العدوان الآثم عن تلك البقعة (الآمنة)! البقعة التي يجب ألا (تقلقها) بعد الآن هجمات المعتدين!!
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلاً في قصة فنية. . إن مورياك في هذه القصة كما قلنا لك، لا يطالعك بذلك (الفهم) الواسع الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار، ولكنه يطالعك بذلك (التذوق) للحياة في لحظاتها النفسية التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق! تلك اللقطة النادرة في جملة عابرة؛ اللقطة المتمثلة في تصوير الندم والشعور به، وفي الإيحاء بالذنب والتكفير عنه؛ وتلك الزاوية الفريدة التي أختارها ليركز فيها ذلك الإيحاء بكلمات قليلة موجزة قوامها (الذبابة التي استقرت على الوجه النبيل). . كل هذه القيم التعبيرية التي ارتفعت بالمشهد النفسي إلى آفاق متسامية من الفن،