الظافرين، فجاب أنحاءها، ولما يسترح، وهاجم نوادي الأحزاب ولما ينفض غبار السفر، ولم يلتفت إلى ما حوت من جمال وحضارة، ولم يفكر في متحف أو ملهى، فالأمر أجل من ذلك خطراً، ولم يضيع الفرصة وهي سانحة، ولم يؤخر عمل اليوم إلى غد، وحياة الزعماء تعد بالدقائق والثواني. ولما كان في فطرته الثورة، فقد انضم إلى حزب المعارضة. وابتدأ العمل، وأتخذ الفنادق مأوى، والمقاهي مورداً، ولم يستطع في بادئ الأمر أن يزاحم الأحزاب، فالأحزاب مليئة بالشباب الثائر الفائر، والبلغاء الأنبياء، وما عليه أن يكون هتافا، وهو واثق من نفسه على كل حال، وقد عرفه الناس جريئا يتوجه إلى رئيس الحزب، فيهنئه بسحر البيان وقوة المنطق، ورئيس الحزب في غنى عن إطرائه وثنائه، ولكن الزعامة لا تقيد - كما كان يقول الأستاذ حافظ عوض في ذلك الزمان.
ولم يمض على الأستاذ بهلول شهران حتى صادفته عقبات - ككل الزعماء - فقد أصبح خالي الوفاضلا يملك من المالشيئا، فقد انقطع بر والده به، ووالده غير ملوم فيما فعل، فهو مستعد للإنفاق على ابنه ما طلب العلم، أما أن يهرب من المدرسة فما له بين يديه لا يرسله إليه. وفكر في شأن والده فرآه على ضلال مبين. لا يقدر الأمور قدرها، ولا يحسب للوطن حسابا. إنه ذو أثرة يقدم منفعته على منفعة الوطن. وما فائدة العلم في بلد محتل! ومن أين علم أن ابنه يعيش حتى ثمرة تعليمه، لقد وهب للوطن نفسه ويود أن يسقي شجرة الحرية بدمائه، ومع ذلك فهو على جاب كبير من المعرفة، فهو يستطيع أن يكتب ويخطب ويجادل، ولا يعيا ببرهان. ماذا ينقصه؟ ولو كان والده على علم بما يجول بخاطره، أو يفكر في مستقبل وطنه ما وقف ذلك الموقف الشائن! ولأغدق عليه النعم، فما هجر العلم ليلهو ويلعب، وما لنفسه بغي الخير إن الوطن قد ناداه فلبى النداء، ودعاه فأجاب الدعاء. والوطن أكبر من الوالدين، وأسبق منهما وجوداً، وأجدر بالبر والطاعة.
ثم قام من مكانه. ومضى في طريقه لا يلوي على شئ، ولا يحفل بشيء، تمر عليه الدور والقصور ولا يعبأ بها، وتجري حوله السيارات ذاهبة آيبة، ولا تحرك منه ساكناً. إن شؤون الوطن قد ملأت شعاب قلبه، وحاطها بشغافه، ولم تعد هناك متسع لغيرها وفجأة وجد نفسه أمام قصر عابدين لمرآه، وتيقظ تيقظا شديداً، وسمرت عيناه في شرفته، وأراد أن يتكلم، فجذبه الخوف جذبة أماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا له أن يطوف حوله، فأدى