للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الطواف مغيظ محنقاً، ثم تابع السير حتى ألقى بنفسه في مقهى متواضع دخله لأول مرة؛ واتخذ له مكانا بعيدا عن الناس فقد عاوده الحنين إلى الوحدة؛ وحدثته نفسه أن ينقد رواد المقهى؛ فوجد الصحف المسائية أمامه على المنضدة بجوار الصينية وأخذ يقرأ حتى منتصف الليل؛ وصاح صاحب المقهى يأمر بإغلاق الأبواب. فلما أحس تلك الصيحة نهض متثاقلا يجر رجليه جراً.

ماذا يفعل؟ إ ن ما معه من النقد لا يقوم بأمره. أيذهب إلى صديق ليقضي عنده بقية الليل؟ ولم لا يوافق على هذه الفكرة. أيسير في الشوارع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا؟ وهنا هز رأسه علامة الرضا؛ وسار يقطع الطرقات؛ ويحادث العسس؛ ويرمق السيارات وراكبيها؛ واحتجت مبادئه السامية؛ فلعن القدر وحياته الفاشلة. ثم سكنت المدينة وهو يدب في أحيائها وحيداً شريداً.

واستقبل الصباح خائراً كئيباً، لا تكاد تحمله قدماه، وعلى غير وعي ألفى نفسه في مقهاه، وشرب شايا ممزوجا باللبن، وقرأ صحف الصباح بالمجان. فلما متع النهار شد جسمه إلى السير، والسير المجهول، ومضى في طريقه تتناوشه الأفكار السود من كل جانب. ومرت فكرة عن حزبه مر المجانب، ففرح باحتجابها، فقد يئس منه كل اليأس. وفجأة سمع هتافاُ حارا، فاندفع نحوه بما يملك من قوة فوجد ضالته المنشودة، وجد مظاهرة كبرى، فاندمج فيها كأنه محركها، وما هي إلا هنيهة حتى كان على الأعناق يهتف وينادي بسقوط الحكومة، ولم يقف البوليس مكتوف اليدين، بل فرق المظاهرة وقبض على زعماء الحركة وفي مقدمتهم زعيم الطلبة. وفرح جدا حين اقتحم باب السجن كأنه مجرم تعود حياة السجون، وبات ليله يغط في نوم عميق، ولم ير الشمس حين أشرقت بنور ربها، ولكنه أحس بها من داخل قلبه، وشعر بارتياح عظيم، وقدم إليه طعام غير طعام السجن فرضي عن نفسه وعن حزبه، ومرت عليه خواطر بيضاء، وأحلام حلوة. ولم يخرج من السجن إلا يوم سقوط الحكومة. وخرج ليكون من المجاهدين.

لقد كان سجنه نقطة تحول في حياته، فقد أصبح يجد المال ميسراً، وأصبح خطيبا يشار إليه بالبنان، يتحدث عن الاعتقال، والصبر على الاعتقال، وحاجة الوطن إلى فدائيين. وأقبلت الانتخابات فخاض غمارها داعياً وهاتفاً، وامتطى الطيارة مع أحد المرشحين، وأطل من

<<  <  ج:
ص:  >  >>