للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأخير للمرأة الذي يستطيع أن يرضي الحب الأول للرجل)؟! ولقد رسم هذا الحب الأول لبلزاك طريق ميوله الغرامية طول حياته ونوع المرأة التي تستطيع في نظره أن تملأ فراغ قلبه وتروي ظمأ حواسه الملتهبة المتدفقة؛ فالحبيبة النموذجية في نظر بلزاك هي تلك المرأة التي تخطت الثلاثين والتي تكون منه بمثابة الأم لطفلها المدلل، تغمره بعطفها وتحنو عليه وقت الشدة، وتمده بالمعونة المالية وقت الحاجة. هي تلك المرأة الواعية التي ترتفع بتجاربها عن الأنانية التي تريد أن تجعل من الرجل وسيلة لا غير لتحقيق أطماعها وإطفاء لهيب نزواتها. هي تلك المرأة التي أوشكت بحكم سنها أن تفقد الأمل في صداقة جديدة والتي تشعر بالسعادة الحقة إذ أتيحت لها تلك الفرصة النادرة التي تشعرها بأنه لا يزال هناك من الرجال من يعجب بها وترغب في صداقتها. وما بطلتا قصتي (المرأة المهجورة) و (المرأة ذات الثلاثين ربيعاً) إلا صورتان عن بطلات حياته الغرامية اللواتي خلدهن في قصصه العديدة ومنحهن حق التمتع بالحياة رغم العرف السائد في ذلك الوقت من الخصوص الذي يحرم عليهن بعد هذه السن التمتع بهذا الحق.

ولقد كانت هذه الصور الخالدة للمرأة التي تخطت الثلاثين في قصص بلزاك سبباً في أن يخلق حوله طبقة من المعجبات لم يتمتع بها غيره من كتاب القصة في القرن التاسع عشر. وفي جو هذه الصور الحية كان بلزاك يبشر بفلسفته الجديدة على لسان أبطاله كقوله (إن المرأة ذات الأربعين تعطيك كل شئ. أما ذات العشرين فلا شئ إطلاقاً). ولقد طبق بلزاك طوال حياته الغرامية هذه العقيدة فكان (شديد الكره للفتيات) لأنهن يأخذن كثيراً ويعطين قليلاً. كما أنه لم يلجأ إطلاقاً في علاقاته إلى بائعات الحب أو إلى ذلك النوع من الغانيات اللعوبات المغرورات. وما كانت صداقته بعد مدام دوبيرني كصداقته لدوقة إبرانتيز ومدام ريكامييه ومدام رولما كارو ودوقة كاسترى ثم أخيراً مدام دوهانسكا إلا تطبيقا لتلك العقيدة التي كونها لنفسه على ضوء حبه لمدام دوبيرني وهو أن تكون المرأة له أماً وشقيقة وصديقة وعشيقة في وقت واحد، يلوذ بها أيام المحن والكوارث فتغمره بتشجيعها وسلواها وتهرع إليه في ليالي الشقاء كما كانت تفعل مداد دوبيرني التي كانت (تأتي إليه كل يوم كما يأتي النوم الكريم يسكن وقر الآلام).

بقي بلزاك حتى الثلاثين من عمره يكافح بعناد دون أن يخرج عملاً أدبياً ذا قيمة إلى أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>