أصدر أول قصة طويلة له (التعويذة) فكانت فتحاً جديداً في الفن القصصي من حيث قوة التحليل ودقة الوصف وكان نجاحها بداية فجر مشرق. فمنذ ذلك الوقت رسم بلزاك لنفسه هدفاً رئيسياً لموضوعات قصصه وهي أن تكون دراسة للمجتمع بكافة نواحيه يختلط فيها كل من الغنى والفقر، السعادة والشقاء، الطبقة العليا والطبقة السفلى، قوة المال وضعفه، وبالاختصار كل ما يعج به المجتمع من متناقضات. ذلك أن بلزاك كان يعتبر أن هذه المتناقضات أشبه ما تكون بالعناصر الكيمائية التي يتوقف كل منها على الآخر. فثراء طائفة من الناس سببه فقر الآخرين. والفقر المميت لا ينتج إلا لأن البعض قد أستحوذ على معظم الثروات. . وسعادة البعض كثيراً ما تكون على حساب تعاسة الآخرين وهكذا. ولقد كانت حياة بلزاك الخاصة في باريس وما عركه بنفسه بين مختلف طبقاتها هو المصباح الذي أرشده إلى حقائق المجتمع الإنساني في عصره. وما قصصه (الأوهام الضائعة) و (لويس لامبير) و (سيزار بيروتو) و (الأب جوريو) و (أوجيني جرانديه) وغيرها إلا ثمرة دراساته الشخصية وحياته العاصفة التي جعلت منه الأديب المؤرخ لعصره والمصور الصادق والطبيب البارع للمجتمع الباريسي الصاخب والمجتمع الإنساني بوجه عام.
ولقد استطاع بلزاك خلال هذا الكفاح العنيف في سبيل تأدية رسالته وفي سبيل (أن يحقق بعلمه ما حققه نابليون بحسامه) كما قال - أن يكتب في مدة عشرين عاما - عدا المسرحيات والمقالات والقصص القصيرة - أربعاً وستين قصة طويلة وأن يخلق في هذه القصص إلفي شخصية إنسانية، كل منها نموذج قائم بذاته للطبيعة البشرية بفضائلها ورذائلها، محققاً بذلك حلمه في أن يرسم صور المجتمع الإنساني بكافة ألوانه وطبقاته في قالب قصصي في سلسلة أطلق عليها فيما بعد ذلك العنوان الخالد على الدهر (المهزلة الإنسانية).
ولقد أرتفع بلزاك بإنتاجه الأدبي إلى أن يكون كما كان يتمنى (على رأس الحياة الأدبية في أوربا) وأن يكون (خليفة بيرون ووالتر سكوت وهوفمان). والواقع أن بلزاك قد فاق الأدباء الذين كان يتخذهم في شبابه مثلاً أعلى له؛ فقصته (لويس لامبير) التي تعتبر أعمق وأقوى ما كتب بمثابة فتح جديد في الفكر الأوربي عندما كشفت العلاقة الخفية بين العبقرية والجنون قبل أن يكشفها علماء النفس في أوائل القرن العشرين بعشرات السنين. ولقد كان