الأغنية أو الأنشودة أو الحكمة أو المثل إلا تعبير عن الحياة من فيض العاطفة ووهج الروح وهذه الروح والعاطفة كلتاهما هبة الله للشر لا يفتقران إلى معاناة العلم، ومكابدة الدرس، ولا يتوقفان على اكتساب الأقيسة المنطقية التي تحقق بها ظواهر العيش وطبائع الأشياء، وتتألف منها صنوف المعارف والعلوم.
الأدب لا يقول لك: أعلم هذا وأعرفه، ولكن يقول: تأثر بهذا واستشعره. وعبثا تطلب من الأدب إن ابتغت عنده أن نريدك علما ومعرفة؛ وإنما أنت راغب إليه في أن يشيع في أقطار نفسك الروعة والاهتياج، ويملك عليك عاطفتك بالاستهواء، فيهرب بك من حاضرك وينسيك ما أنت فيه، ويمضي بك محلقاً في آفاق من الأخيلة والتصورات، فأنت عنده طالب سلوه وتعزية، أو مقتبس فرحه وابتهاج، أو ملتمس لوعة وبكاء، وساعة أنت تطلب منه أن تفكر أو أن تحلم. . . وفي ألوان الأدب ما ينيلك هذه المطالب جميعاً.
غاية الأدب إذن أن يروع، ونعني بالروعة إثارة المشاعر ونفض الاحساسات. ولا يكون هذا إلا إن كان العمل الأدبي فنياً، أي جميلاً، أي رائعاً. . . والأدب الفني إنما يجمل وتكتمل فيه الروعة حسن بتوافر له عنصر اللذة والإمتاع، أو التسلية والترفيه، فبهذا العنصر تحمل القارئ على أن يقرأ، وتحبب إليه أن يتابع. فالاستجابة بين الكاتب والقارئ شرط التواصل بينهما، ولن يستجيب القارئ لكاتب إذا فقد عنده ما يسعده ويمتصه ويؤنسه، والمقصود من الإيناس والإمتاع أن يبعث الكاتب عند القارئ نشطة الفكر وأن يلمس مشاعره، وأن يثير فيه الإعجاب بالجمال.
وإنك لا تبلغ مبلغ الاستجابة من نفس القارئ إذا جلوت له الواقع الذي يحيط به أحداثاً كما هي في مجمع الناس، فالواقعية البحت لا تخرج بالقارئ عن مشهوده المبذول ومسموعه المملول، وكذلك لا تبلغ من نفسه ذلك المبلغ المنشود إذا نأيت به عن مألوفة في دنياه، وباعدت بينه وبين آفاق أفكاره وأحيلته، وإنما وأنت مصيب غرضك متى بعثت في الواقع الميت، وصبغت الأحداث الجامدة صبغة الحيال، فبذلك يسمو العمل الأدبي إلى المستوى الفني، فإذا هو فتنة تثير وجال يروع.
ربما عن لسائل أن يقول:
أني للجماهير أن تستجيب للأدب الفني الرفيع، وهي محدودة الوعي والإدراك، متخالفة