ولما علم ملك الإنجليز بمقدم الملك العادل، واجتمع به وأبدى له الرغبة في الصلح، فقال له الملك العادل: أنتم تطلبون الصلح ولا تذكرون مطلوبكم فيه، حتى أتوسط بينكم وبين السلطان. وهنا بدأ ريتشارد بذكر أعلى شروطه للصلح، مظهراً صرامة وقوة إذ قال:(القاعدة أن تعود البلاد كلها غلينا تنصرفوا إلى بلادكم)، ولم تكن هذه القاعدة بطبيعة الحال مما يقبله الملك العادل، فأخشن له في الجواب، وجرت بينهما منافرة، انصرفا بعدها على غير اتفاق. ثم دارت بين الفريقين بعض المعارك، عاد بعدها ملك الإنجليز يعجم عود الملك العادل في أمر الصلح عله يلين، على غير جدوى.
طلب ريتشارد إلى الملك العادل مرة أخرى أن يرسل رسولاً من لدنه ليتفاوض معه في أمر الصلح، فأرسل إليه رسولا يثق به، ظل يفاوض الملك حينا طويلا، ومع ذلك لم يتزحزح الملك إلا قليلاً عن موقفه، فقد عاد الرسول وأخبر العادل بما دار بينه وبين ريتشارد الذي قال للرسول: لا أرجع عن كلام أتحدث به مع أخي وصديقي - يعني العادل - فكتب العادل رقعة أنفذها إلى السلطان تتضمن شروط الصلح التي عرضها ملك الإنجليز وفيها:(إن المسلمين والإفرنج قد هلكوا، وخربت البلاد، وخرجت من يد الفريقين بالكلية، وقد تلفت الأموال والأرواح من الطائفتين، وقد أخذ هذا الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا إلا واحد. وأما البلاد فيعاد غلينا ما هو قاطع الأرد، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم، فيمن به السلطان علينا ونصطلح، ونستريح من هذا التعب).
ولما وصلت الرسالة إلى السلطان استدعي أرباب المشورة في دولته، وشاورهم في الأمر، وانتهى التشاور إلى موقف حازم، إذ أرسل السلطان في جواب الرسالة يقول لملك الإنجليز:(القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينا، ومجتمع الملائكة، فلا تتصور أن ننزل عنه، ولا تقدر على التفريط بذلك بين المسلمين. وأما البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئا عليها، لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الوقت، وما يقدركم الله على عمارة حجر منها مادام الحرب قائما، وما في أيدينا منها نأكل بحمد الله مغلة وننتفع به؛ وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة. ولا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة للإسلام هي أوفى منها).