لأن حظي من فورة الشباب كان أيضاً أقل. إلا أنني تمنيت أن لو قد أصابني كل ما أصابه أو أكثر. فقد وقع عليه الاختيار في تلك الليلة؛ ثم كان هو المختار أيضاً في الليلة التي بعدها، وفي الليلة الثالثة، وفي ليال أخرى متعاقبة. ثم بدأ نادينا يقل رواده لأن فيرا لم تعد تظهر. والشاب أيضاً لم يعد يظهر. ثم علمنا أن الاثنين طارا إلى عش على سطح دار صغيرة قي (مونت ماريو).
وكف صاحبي عن حديثه لحظة، فصب لي ولنفسه جرعة أخرى من نبيذنا القليل الذي كاد ينفد. وبحث في كل جيوبه عن شيء يعطيه لذلك العازف المسكين. ثم وصل الحديث فقال:
لم تعد فيرا تعمل كنموذج. وكان يقال أنها أحبت عيشة البيت الساكنة المطردة، أكثر مما أحبت عيشة الملاذ الطليقة المنوعة، لأنها أحبت رجلها. ولم تحبه فحسب بل كانت تعبده عبادة صادقة، وكان يخيل إليك بأنها كانت ترد إليه بهذه العبادة كل العبادات التي أسلفناها لها.
كانت تقاسمه حياته الصعبة؛ بل كانت تأخذ لنفسها وحدها من حياته الوجه الصعب. وتبذل قصارى الجهد كيما تتيح له الهدوء واليسر والدعة.
كانت تطحن الألوان، وتعد له التيل، وتصلح له الإطارات إلى جانب ما تقوم به من شؤون الدار.
وكانت تقطع شارع (ميداليا دوزو) الطويل في كل صباح على قدميها في ذهابها إلى السوق وعودتها، لتقتصد (الصولديات) القليلة، ولا تنفقها على الترام. والشراء من السوق وحده كان كلفة صعبة. فقد كان عليها أن تمر بالباعة كلهم فتستعرض ما لديهم في دقة وعناية، قبل أن تقدم على شيء. وكانت تلتفت حولها في كل لحظة، وتأخذ حذرها، حتى لا تراها جارة من جاراتها الكثيرات. فقد كان يعز عليها أن يعلم الناس أن فيراري الأستاذ الجميل الفتى يعاني شظف العيش، حتى لتشتري امرأته أرجل الدجاج وأوراق الخص (المفرطة) والبيض المكسور.
(ولكن شيزارينا الرسامة، صديقتها وخليصتها، قد اطلعت على سرها وجاءت تقص علنا النبأ في المقهى اليوناني فأحسسنا مرارة الأسف. إلا إن فيرا نفسها لم تكن تأسف. وكنت إذا قابلتها في بعض الطريق صدفة وما كنت تلقاها إلا صدفة، حيتك وعلى ثغرها ابتسامة