وبرهان هذا ساطع كل السطوع في تاريخ البشرية والحضارة منذ الأحقاب الخالية، منذ كان الكون سديماً إلى أن انبسط أديم الأرض، ودب على ظهرها الإنسان، وقامت هذه المدنيات العظيمة على أنقاض الكهوف والغابات.
وما برح التطور موصول الخطأ، نحس به فيما ندرك من نواميس الطبيعة، وقوانين الحياة، وفيما نتخذ من وسائل الحضارة وأنظمة الاجتماع.
وهذا التطور ينتقل به المجتمع البشري من حسن إلى أحسن، إلا أنه يقتضي مزاولة التجربة بعد التجربة. وهيهات أن يستقر للحياة طور من أطوارها إلا بعد أن يثبت كفايته في ذلك الميزان العظيم: ميزان بقاء الأصلح. . . فالأحياء لا يبقى منها إلا ما يصلح أن يكون عوناً على تطور الإنسانية والمضي بها إلى الأمام. والأنظمة على اختلاف أهدافها ومناحيها لا يستقر منها إلا ما هو كفء لتوفير الحياة المثلى.
وما أقسى هذه التجارب التي يزاولها الإنسان!
وما أكثر ما يكون فيها من تعسف وعنت!
ولكن ذلك كله لا مفر منه لكي تظفر البشرية بالانتقال من طور إلى طور يمضي بها خطوة في سبيل الخير العام.
والآلة ليست إلا وليدة ضرورة طبيعية أحس بها الإنسان. وهي نتيجة حتمية للتطور البشري الذي لم يكن منه بد. وإننا لنجد الآلة وقد أتت بالمعجزات في مجال التحضر، وبها تأثرت مذاهب الاقتصاد ونظم الاجتماع حتى أصبحت هناك قيم للحياة جديدة، تلائم ذلك التطور الذي أدت إليه الآلة في عصرها الجديد.
وفي مقدورك أن توازن بين الإنسان القديم، إذ كانت الآلة لم تخترع، أو على الأصح حين كانت الآلة في مظهرها العاجز المحدود، وبين الإنسان الحديث، إذ بلغت الآلة هذا المبلغ العظيم من القوة والجبروت، فإنك إذا أجريت هذه الموازنة نحلى لك البون شاسعاً بين الماضي والحاضر في مجال الرقي الثقافي والاجتماعي، المادي والمعنوي. وإذن يستعين لك فصل الآلة فيما شمل الإنسانية من رخاء وانتعاش، وفيما فاض عليها من بركة وخير.
وهذه الآلة من صنع الإنسان، توصل بها إلى أن يختصر المسافات، وأن يختزل الأزمنة، وأن يسخر بها ما في الأرض والسماء من قوى وعناصر. وهي في يده، يحركها إرادته،