للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويسيطر عليها بحكمته. فإن وقف منها موقف الحزم والتبصر استطاع أن يفيد منها ما شاء. فأما إن أساء استعمالها، وأفلت منه زمامها، فإنها تدمر مدنياته وتدمره معها. ولكن الأمل وثيق ألا يفقد الإنسان رشده، وأن يظل ضابطاً للآلة في يده، حتى تكون طوع خيره. . . بها يتم نفع العالم، وعليها تقوم عمارة الكون.

وإن صحبة الإنسان للآلة فيما يمارس من أسباب عيشه ومرافق حياته، ستخلق منه إنساناً جديداً يتخذ له في نظامه الاجتماعي طرازاً جديداً، فإذا هو يتطور في نزعاته النفسية، وفي مطالبه العقلية، وفي ذوقه الفني، وفق التطور الحديث الذي تسبغه الآلة على المجتمع البشري.

ما من شيء كانت تصنعه الأيدي إلا وقد امتدت إليه الآلة تصنعه؛ والناس إزاء هذا يتغافلون أن (شغل اليد) هو العمل الفني، وأما صنع الآلة فهو عمل غير فني. وحجتهم في ذلك أن اليد تعمل بوحي الإنسان، وتستمد حركتها من رأسه وعاطفته، فالإنسان ينفض نفسه في كل وحدة من وحدات عمله الفني، وأما الآلة فتستمد قوتها من محركات صماء.

وللناس في تعزيز هذا الرأي ضروب من التمثيل. فهم يضربون المثل بالحلة المفصلة على قد إنسان بعينه، فيرونها ألق بصاحبها، وأدق صنعاً وأوفر فنية، من الحلل المجهزة على أقيسه عامة. . . وكذلك الصورة الزيتية، يرونها أروع من الصورة (الفوتوغرافية) أو الصورة المطبعية الملونة، فهذه آلية وتلك يدوية. . . وكذلك الصوت لا يسحر السامع إذا سمعه من الحاكي أو المذياع، قدر ما يسحره إذا سمعه من فم المغني نفسه.

وأنت قد تجد في زخرف هذه الحجة التي يسوقها الناس مظهر الحق، ولكنك إذا أنفذت بصرك إلى الأعماق تكشفت لك حقائق لا تبغي عنها حولاً. فإن هذه الآلة التي نزري بها وجدت منذ وجد الإنسان، منذ خرج من إطار الحيوانية الغافلة إلى مستوى البشرية المفكرة. وقليل من التدبر يقنعنا بأن الآلة هي العنصر الأساسي في بناء المدنيات منذ فجرها الأول. . . ولعل ما نسميه (شغل اليد) لا وجود له بالمعنى الحقيقي في تاريخ الإنسان. فالمغزل والمنسج والإبرة في أطوارها الأولى ليست إلا آلات بدائية. والمرقم للرسام والأزميل للمثال كلاهما آلة، ولماذا تذهب بعيداً واليد نفسها ليست إلا آلة توسل بها الإنسان للقيام بعمل فني؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>