للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فهذه الوسائل والوسائط، أو بتعبير آخر: هذه الآلات البدائية، ظلت تقوم بالأعمال الفنية، يسيطر عليها الرأس، وتوحي إليها العاطفة. . . ثم تطورت مع الإنسان آلاته، تساير حاجاته، وتواتيه بمطالبه، حتى انتهى بها الأمر إلى هذا المظهر الآلي العجيب المعقد الذي بدأنا نخشاه. . . أرأيت إذن أن تلك الآلة الحديثة ليست إلا امتداداً وتطوراً للآلة القديمة التي عاصرت الإنسان منذ درج الإنسان؟

دونك (الكتاب) مثلاً. . . ذلك الذي نحوطه بالتقديس، ونعده ذخراً وموئلاً للعلوم والفنون والآداب، ونرى فيه مرآة العقل الإنساني، والفكر البشري، ومن ثم نخشى عليه أن تنال منه (الآلية) الحديثة التي تكمن في (الراديو) و (السينما) وما إليهما، ونطلق صرخة الرعب والفزع، طالبين حماية الكتاب من هذه الويلات. . . بل إن فينا من يقول بأن ثقافة المستقبل سيتطرق إليها الوهن إذا ضعف شأن (الكتاب) وأنتسخ ظله، وأنه ليس من شيء يقوم مقامه ويعوضنا عنه، وينهض بالعبء الذي نهض به.

والحق في ذلك أن (الكتاب) ما هو إلا سجل يضم نتاج القرائح، ويحوي عصارات الأذهان، وما هو إلا مظهر للتعبير عن الاحساسات والمشاعر. . . وقد كان هذا (الكتاب) يوم كان لوحاً محفوظاً في الذاكرة يتلقاه الأحلاف من الأسلاف، وكان كذلك أحجاراً وجلوداً ولحاء شجر، ثم كان بعد ذلك مخطوطاً على الأوراق لا تزيد نسخه على العشرات. فلما جاء عصر الطباعة اتخذ (الكتاب) هذا الشكل الحديث، وأتيح له ذلك التعميم، فهو مدين للآلة بما بلغ من جاه عريض، وصيت بعيد.

وما دام (الكتاب) في حقيقة أمره وسيلة تعبير، فلا ضير على المدنية الحديثة إذا اصطنعت لها وسيلة أكثر ملاءمة للتطور، وأبعد مدى في تحقيق الغرض. ولن تكون الوسيلة المستحدثة إلا امتداداً (للكتاب) في مظهر آخر هو أقرب إلى روح العصر، وأدعى إلى نشر الثقافة بين الناس، وإذن فالآلة تخدم غرض (الكتاب)، وإن كانت في الظاهر تخمل (الكتاب). فهدف الآلة دائماً هو التيسير، هو أن تتيح للجمهور الأكبر ما هو متاح للخواص من استمتاع وانتفاع، وكذلك تعمل الآلة على أن توفر من الجهد، وتقتصد في الوقت، ليستفاد بذلك في ميدان الابتكار والتجديد والتجويد.

وإليك الغناء مثلاً آخر، فالمغني لا يملك إلا أن يسمع طائفة من الناس في زمن مخصوص،

<<  <  ج:
ص:  >  >>