يستطيع إذا اهتدى إلى فلسفة غير فلسفته الحاضرة أن يبصر الطريق إلى ضم بعض تلك الأجزاء، على تباينها، إلى بعض ضماً يجعل منها كلاً متصلاً تتجلى فيه الفطرة وحدة موحدة يجلوها علم عام جامع لشتات العلوم كلها هو علم الفطرة. عندئذ يرى الإنسان أن سنن الله في الكون واحدة في اطرادها وتناسقها، وفي دقتها وصرامتها، لا سبيل إلى تغييرها ولا إلا لإفلات من عواقب مخالفتها سواء في ذلك ناحية المادة والطاقة منها وناحية النفس والروح في الأفراد والجماعات.
ومهما عذر الناس في جهل أن الفطرة وحدة واحدة في طبيعياتها واجتماعياتها فالمسلمون من بينهم لا عذر لهم؛ لأن كتاب الله فاطر الفطرة قائم بينهم يخبرهم من ذلك بما جهلته الفلسفة ولم يدركه العلم، في آيات هي في أيدي المسلمين وا أسفاه كالمصابيح في أيدي العميان، من نحو قوله تعالى من سورة تبارك (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ومن سورة فاطر (فهل ينظرون إلا سنة الأولين! فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً).
والعجيب أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن لم تنزل في سنن الله في المادة وإنما نزلت في سنن الله في الاجتماع لتنذر الناس عواقب كفرهم إن كفروا بالدين الذي هو دين الفطرة، وليبين لهم أن لله في هذه الناحية سنناً لا تتخلف جرت في الأولين بالإهلاك حين عصوا واتبعوا أهواءهم، وهي جارية لا شك في الآخرين إن هم عصوا أيضاً وخرجوا عن سننه سبحانه التي فطر عليها الناس، سواء أكان خروجهم ومخالفتهم عن جهل أم عن عناد.
ولقد بين الله سبحانه هذه الحقيقة في كتابه الكريم بشتى صور البيان. فتارة يجمل كما في نحو قوله تعالى من سورة الحج (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير. فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها). وتارة يفصل ثم يدل على موضع الحجة والعبرة في التفصيل كما تجد في سورة القمر مثلاً إذ قص سبحانه ما جر التكذيب بسننه ورسله على قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون، حتى إذا بين سبحانه من ذلك ما شاء تفصيله التفت إلى كفار قريش مخاطباً بقوله (أكفاركم خير من