ويهتز. ورأيت صاحبي يّذْهل عن نفسه، ويتلألأ على وجهه نورٌ لكل تكبيرة، كأن هناك مصباحاً لايزال ينطفيء ويشتعل؛ فقطعتُ الرأي انه من الملائكة
ثم اقيمت الصلاةُ وكبر الامام وكبر اهلُ المسجد، وكنت قرأتُ أن بعضهم صلى خلف رجلٍ من عظماء النفوس الذين يعرفون الله حق معرفته؛ قال: فلما كبر قال: (الله) ثم بُهت وبقي كأنه جسدٌ ليس به رُوح من إجلاله لله تعالى؛ ثم قال:(أكْبَرْ) يَعْزِم بها عزماً، فظننتُ أن قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره. قلتُ أنا: أما الذي الى جانبي فلما كبر مد صوته مداً ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوتُ نورً لملأ ما بين الفجر والصُّحى
* * *
وعرفتُ واله من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأني لم ادخله من قبل، فكان هذا الجالسُ الى جانبي كضوء المصباح في المصباح، فانكشفَ لي المسجدُ في نوره الروحي عن معانٍ ادختني من الدنيا في دُنيا على حِدَة. فما المسجدُ بناءً ولا مكاناً كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيحٌ للعالم الذي يموج من حًوْله ويضطرب؛ فان في الحياة أسبابَ الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلها يمحوها المسجد إذ يجمع الناس مراراً في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس؛ ولا تدخله إنسانية الانسان إلا طاهرة منزهةُ مسبغةً على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعارَ الهرِ الذي يُسمى الوضوء، كأنما يغسل الانسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد.
ثم يستوي الجميعُ في هذا المسجد استوا واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، ويكونون جميعاً في نفسية واحدة؛ وليس هذا وحده، بل يَخرون الى الأرض جميعاً ساجدين لله، فليس لرأسٍ على رأس ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز؛ ومن ثم فليس لذات على ذات سلطان. وهل تحقق الانسانية وحدتها في الناس بأبدعَ من هذا؟ ولعمري أين يجد العالمُ صوابه إلا ههنا؟
فالمسجد هو في حقيقته موضعُ الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يَزيغُ به الاجتماع. هو فِكْرٌ واحدٌ لكل الرؤس؛ ومن ثم فهو حلٌ واحد لكل المشاكل، وكما يُشق النهر فتقف الارضُ عند شاطئيه لاتتقدم، يُقام المسجد فتقف الارض بمعانيها التُرابية خلف جدرانه لا تَدْخله