والتهاون به أشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه؛ ومع ذلك لا يستطيع أن يقول عمن يزهدون في معرفة العلل إنهم أساءوا الاختيار. ومنعوا أنفسهم ما فيه الحظ لهم ومنعوها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة؛ ولكنه يسامحهم ويعذرهم. ولعل من الحسن أن ننقل كلامه في هذا الموضع حتى يكون القراء على بصر من نظرة القدامى المنصفين إلى هذا النحو حتى أصحاب النحو أنفسهم. قال الشيخ وهو يتحدث عمن زعموا الاشتغال بالنحو وحطوا من شأنه (فإن قالوا إنا لم نأب صحة هذا العلم، ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أنكرنا أشياء كثرتموه بها؛ وفضول قول تكلفتموها، ومسائل عويصة تجشمتم الفكر فيها، ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين وتعايوا بها الحاضرين، قيل لهم: خبرونا عما زعمتم أنه فضول قول وعويص لا يعدو بطائل، ما هو؟ فإن بدءوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس كقولهم كيف تبني من كذا كذا؟ وكقولهم ما وزن كذا؟ وتتبعهم في ذلك الألفاظ الوحشية كقولهم: ما وزن عزويت؛ وما وزن أرونان. وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سميت رجلاً بكذا كيف يكون الحكم؟ وأشباه ذلك. وقالوا أتشكون أن ذلك لا يجدي إلا كد الفكر وإضاعة الوقت؟
قلنا لهم: أما هذا الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به، وليس يهمنا أمره فقولوا فيه ما شئتم وضعوه حيث أردتم. فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة وعلى وجه الحكمة في الأوضاع وتقرير المقاييس التي اطردت عليها وذكر العلل التي اقتضت أن تجرى على ما أجريت عليه، كالقول في المعتل وفيما يلحق الحروف الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغيير بالإبدال والحذف والإسكان، أو ككلامنا مثلاً على التثنية وجمع السلامة. لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد؟ ولم تبع النصب فيهما الجر، وفي النون أنه عوض عن الحركة والتنوين في حال وعن الحركة وحدها في حال؟ والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف ولم كان منع الصرف وبيان العلة فيه والقول على الأسباب التسعة وأنها كلها ثوان لأصول، وأنه إذا حصل منها اثنان في اسم أو تكرر سبب صار بذلك ثانياً من جهتين؛ وإذا صار كذلك أشبه الفعل لأن الفعل ثان للاسم والاسم المقدم والأول وكل ما جرى هذا المجرى قلنا: إنا نسكت عنكم في هذا