للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنه كان يحتفظ دائماً بكرسي التدريس في مدرسة أو اثنتين. ولكن القضاء من مناصب السلطة والنفوذ، وكان ابن خلدون يشعر وهو في ذلك الجو المشوب بكدر الخصومة والمنافسة إنه بحاجة إلى ذلك النفوذ الذي أعتاد أن يتمتع به في جميع علائقه السلطانية، وكانت المعركة التي تضطرم حول ذلك الكرسي، والتي شهدنا مظاهرها في تكرار تعيينه وعزله، تذكي بلا ريب في نفسه شهوة الظفر بذلك الكرسي، فيكون ذلك آية نصره على خصومه ومنافسيه. وكان المؤرخ قد بلغ الرابعة والسبعين يومئذ، ولكن نفسه الوثابة كانت تتطلع أبداً إلى مسند النفوذ والجاه، ويصور لنا هذه النفسية مؤرخ مصري نزيه ثقة في إشارة موجزة إذ يقول لنا في خاتمة ترجمته للمؤرخ (رحمه الله، ما كان أحبه في المنصب) وكان ثمة شيء آخر إلى جانب هذا الشغف بالمنصب، فقد كان بين ابن خلدون وبين خصومه نضال، وكان منصب القضاء كما سنرى محور هذه المعركة، يرتفع ابن خلدون إليه كلما استطاع أن يسترد مكانته في القصر وأن يتغلب على كيد خصومه، ويفقده كلما نجحت سعاية خصومه في حقه.

عزل ابن خلدون من منصب القضاء للمرة الثانية في المحرم سنة ثلاث كما قدمنا، وذهب معزولاً في ركب السلطان إلى الشام، فاتخذ خصومه بعده عن القاهرة فرصة للدس في حقه، وزعم بعضهم إنه هلك في حوادث دمشق. ويريد المؤرخ هنا أن نفهم أن المنصب كان محفوظاً له أو أنه وعد على الأقل برده إليه من أولي الأمر، فيقول لنا أنه على أثر هذا الإرجاف في حقه عين مكانه في قضاء المالكية، جمال الدين الأقفهسي (جمادى الثانية سنة ثلاث) فلما عاد إلى مصر عدل عن ذلك، وعزل الأقفهسي، وولي ابن خلدون للمرة الثالثة في أواخر شعبان أو أوائل رمضان فلبث في منصبه زهاء عام يعمل في جو يفيض بالأحقاد والخصومة، ولكنه يقول لنا أنه لم يحفل كعادته بمصانعة الأكابر وأنه أستمر كما كان (من القيام بالحق والإعراض عن الأغراض). فاضطرمت من حوله الدسائس القديمة، واشتدت في حقه المطاعن والمثالب، وأسفرت المعركة عن النتيجة المعتادة، وعزل المؤرخ كرة أخرى في ١٤ رجب سنة أربع (٨٠٤)، وولى مكانه جمال الدين البساطي في أواخر رجب، وهو ممن شغلوا المنصب من قبل. والظاهر أن المعركة كانت هذه المرة أكثر وضوحاً وصراحةً، وإن ابن خلدون عانى من حملات خصومه ما لم يعان من قبل حتى أنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>