التلاميذ نظرة حائرة، ثم رجعت إلى نفسي أحاول إخراج ما فيها من الكلام المهيأ المحفوظ، فكأن ذاكرتي صيفة بيضاء، وكأن لساني مضغة جامدة لا تحس!
السكون شامل رهيب، والأبصار شاخصة ما تكاد تطرف، ووجه الشباب ترتسم ألوان مختلفة متعاقبة من خطرات النفوس ونزوات الرؤوس، وأنا واقف منهم موقف المحكوم عليه، أعلج في نفسي الخور والحَصر، وأجهد في لم ما تشعث من ذهني وتبدد من قواي، حتى هداني الله إلى طريق الدرس، فاعتسفته اعتسافاً دون مقدمة ولا تمهيد ولا عرض!!
أتريد أن تعفيني يا صديقي من وصف هذا الدرس صوناً لسر المهنة؟ ولكن لماذا نتدافن الأسرار ونتكاتم العيوب؟ إن في الدلالة على أوعار الطريق ومضايقها ومزالقها تحذيراً للسالك الباديء، وتبصره للنشيء الغرير
* * *
بدأت الدرس بصوت خافض وطرف خاشع ولسان مبلبل، وسرت فيه وأنا واقف، لا أدنو من السبورة مخافه أن أحرك سكون الفصل، ولا أملس الطباشير خشاة أن أسى الكتابة!!
ان من المعقل أن يعاودني الهدوؤ ويراجعني الثبات بعد زوال دهشة الدخول وربكة البدء لو كنت واثقاً من نفسي متمكناً من درسي، ولكن نظام الموضوع كان قد انقطع فتبعثرت حباته وتعثرت خطواته، ورحت أسرد ما تذرته منه وأنا أشعر بكاماتي تحتضر على شفتي، وبريقي يجمد في فمي، وبعرقس يتصيب على جبيني، حتى فرغت، ثم جلسن أبلع ما بقي من ريقي، ونظرت فاذا الساعة لم يمض نصفها، وإذا التلاميذ يتلاحظون ويتهامسون وعلى شفة بسمة خبيثة لولا تعود النظام وقوة التهذيب لعادت قهقهة صاخبة!!
ماذا أقول بعد أن نفذ القول؟ وبماذا أملأ الفراغ الباقي من الوقت؟ وكيف اؤخر انفجار هذه الضحكات المكظومة؟ أسئلة كانت تضطرب في خاطري القلق فلا أجدها جواباً غير الحيرة!! حتى تطوع تلميذ جريء (لانقاذ الموقف) فقال:
(احك لنا حكاية يا أفندي بأي!)
ولم تكد شفتاي تنفرجان عن مشروع الرد حتى ابتدرني آخر: