وإن كانت تحس بقوميتها العرية العامة متمثلة في لغتها وفي مجامعها السنوية في الأسواق وفي الحج الى مكة، كما كان اليونان يجتمعون في المواسم الأولمبية ويحجون الى دافي، وفي تميزها على الأمم الاخرى التي كان العرب يسمونهم عجماً كما كان اليونان يعتبرون مَن عَداهم برابرة، وإن يكن العصر الجاهلي لم ينتج ملاحم باراً كالألياذة والأوديسا في اليونان أو كملحمة (بيولف) في انجلترا، فان قصائده على قصرها هي من هذا الضرب. ولعل العصر الجاهلي لو طال قليلاص لا ئتلفت تلك القصائد الصغيرة التي تمجد كل منها قبيلة واحدة، فكونت ملحمة كبرى تتغنى بفروسية الأمة العربية قاطبة
ونهضة العرب بظهور الاسلام تماثل نهضة الانجليز في عصر اليزابث بوصول النهضة الأوربية الى انجلترا واتجاه نظر الانجليز الى ما وراء البحر؛ ففي كلا العصرين بدأت كل من الأمتين تخرج من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها وتتصل بالعالم وتصطنع حضارته وتبنى لنفسها امبراطورية مترامية الاطراف، وارتقى أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً ورقت ديباجته، وإن يكن الرقي الادبي في صدر الاسلام قد تمثل في النثر بينما تمثل في العصر الاليزابثي في الشعر ولاسيما الشعر التمثيلي
وبانبعاث هذه النهضة وقيام هذه الدولة انتسرت كلتا اللغتين فيبقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم؛ فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية سار يتكلم من حدود الصين الى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات وأزال غيرها وحل محلها، وأصبح اليوم لسان شعوب كثيرة في آسيا وأفريقة. واللغة الانجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين تعد على الأصابع في عهد شكسبير أصبحت تُتكام وتدرس في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب عالمياً على عهد عظمتهم
ولم تكد كل من الأمتين تود أركان امبراطوريتها حتى انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ والسلطان، وداناها في ازدهار اآداب والعلوم، فكما انفصلت الأندلس عن الخلافة العربية استقلت الولايات المتحدة الأمريكيو عن الامبراطورية البريطانية؛ بيد أن البلاد الأصلية احتفظت بالزعامة الأدبية على طول الذي فلم تنجب الاندلس من الأدباء من بذلوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الامبراطورية البريطانية من داني شكسبير وملتون