ورأت في بيتها ملجأها الوحيد، ولتبق هي في غرفة منه نابية، أو في ركن منه مظلم. ولم تتزحزح هذه الأفكار عن مخيلتها، وقد تراكمت فكانت أثقل من جبل، وفي الليل كانت تنزعج وتصرخ في منامها. فكنت أنا ورينيه نوقظها. وكنا نقسم لها أغلظ الأيمان من جديد. غير أنها كانت تعتبر كلامنا غير أهل للإجابة عليه، وبدأ الشك والسوداء يستوليان عليها. وأخيراً قال لها رينيه:
- (ماذا يحزنك يا ميني؟)
- ماذا يحزنني. . .؟ لا يعرف أحد إذا كان الذي ينظر إلي أو الذي يكلمني هذا من لحم ودم. لا، لا، أولى لي أن أموت! ثم أدارت رأسها في حركة ميكانيكية وقال:
- (وأنتما لا تعرفان. . .)
ولم يكن في مقدرة أحد أن يغريها بترك باريس. ولماذا؟ قد يكونون متفرقين في بقية العالم
وكانت لا تود رؤية أحد حتى خادمتها الصغيرة لم تطق رؤيتها في المنزل. ثم لزمت الفراش لا تفارقه
وكنا أنا ورينيه نتناوب السهر عليها، ونقدم لها الطعام فلا تأكل منه إلا يسيراً. وكانت حياة ملؤها وخز الضمير. وعند ما كانت تغفو كنا نستدعي الأطباء سراً، ليشيروا بعلاج يرجع لها رشدها. ولكن تلك الفكرة التي لازمتها كانت توغل في الصميم، فتركزت أفكارها حول نقطة واحدة. . .
(ربما كان أحدهم من رأيته أو حادثته. . .)
وكانت حياة كلها نكد، يزيد في ظلماتها الذنب المشترك. وكنت أنا ورينيه نمضي الساعات دون أن ننبس بكلمة أو ينظر أحدنا إلى صاحبهُ
وفي ذات يوم تولانا الرعب من فكرة طارئة. ماذا يكون الحال يا ترى لو خيل إلى ميني أن أحدنا أو كلينا من أولئك الرجال المصنوعين، الذين يفزع منهم الشياطين لمجرد ذكرهم أو تخيلهم. ألم نكن نحن أول من قال لها عن هذا الاختراع السخيف؟.
ولكن هذه الفكرة لم تستول عليها، بل اكتسحت مخيلتها فكرة أشد خطراً وأبعد غوراً
كانت ليلة من ليالي الربيع. وقد غرقت ميني في النوم الهادئ ففرحنا. وفتحنا النافذة، وأطللت أنا ورينيه على الطريق نتسلى برؤية النجوم مرة وبإمعان النظر في الظلام المخيم