عند ذلك أمر السلطان أن ينفق المال في بعض وجوه البر، فعموا به رباطاً للمجاهدين على حدود أقليم طوس. وكذلك نفي السلطان عن نفسه آخرة الأمر تهمة لتقصير في حق الشاعر الكبير. فان ادعى مدح أنه ظلمه في الأولى فقد أنصفه في الثانية، ودل بذلك على نفس كبيرة وحلم عظيم
تلك بالاختصار سيرة الحكيم أبي القاسم الفردوسي. وهي سيرة تفصح عما أوتيه ذلك الشاعر من قوة تتمثل في صدق عزيمته، وبهد همته، وعظم غايته، وثبات مقصده، كما أنها تفصح عن ضعفه الذي يبدو في حدة مزاجه، وكثرة شكواه من الفاقة وتبرمه بالناس والزمن، ثم في ندمه في ملع قصته الثانية على ما أنفق من جهده واضاع من عمره في نظم ملحمته الأولى. على أن ذلك كله ليس مناط تعظيم قومه لذكراه، إنما مناط ذلك هو الصنيع الجليل الذي أسداه الى القومية الفارسية واللغة الفارسية الحديثة.
ولبيان ذلك ينبغي أن نرجع مع الزمن الى أوائل القرن الأول الهجري، فقد حمل العرب إذ ذاك على الدولة الفارسية، وما هي إلا سنوات معدودات، حتى كانوا قد قضوا على ملك آل ساسان، وصيروا فارس أقليماً من أقاليم الخلافة العربية، وانتشر الاسلام بعقب ذلك في فارس حتى كاد يقضي على الدين الزرادشتي، كما انتشرت العربية بين الفرس حتى أخملت الفهلوية وكادت تمحوها
قبل الفرس الاسلام عن طواعية نفس وطيب خاطر. أما القومية فقد جاهدوا من أجل الاحتفاظ بها جهاداً عظيماً. وقد تطور هذا الجهاد من مجرد مطالبة بالحقوق العامة قام بها الموالي زمن الدولة الأموية، الى مؤازرة للثائرين عليها من الخوارج والشيعة، الى ثورة عامة انجلت عن سقوط الدولة الأموية العربية، وقيام الدولة العباسية التي كانت فارسية في أكثر أوضاعها العامة، الى استقلال سياسي يسره ضعف السلطة المركزية ببغداد، الى سعي حثيث في أن يكون للفرس وجود قومي صحيح
الى هذا المجهود الضخم الموجه الى الاحتفاظ بالقومي، قام الفرس بمجهود آخر رائع من أجل إنهاض لغتهم وتعميم استعمالها في بلادهم
لقد طغت العربية على الفهلوية في العصر العربي الأول طغياناً كان من أثره أن انحصر استعمال هذه اللغة في حدود إقليمية ضيقة: في فارس وخراسان وطبرستان، ولم تسلم