في القرن الخامس للميلاد. مع أن الأدب العربي انبثق قبل هذا الزمن بمئات السنين. فمن المحال أن يبلغ أي أدب من الآداب الكمال الفني في وثبة واحدة. فلا بد له من عصور ريثما ينضج. أن هو إلا أشبه بالطبخة. وهذه الطبخة لا تكفيها سنة ولا عشر سنوات. فهي بحاجة إلى مئة سنة على الأقل لتصلح للمضغ والازدراد. ونحن عرفنا أول شعر عربي أتصل بنا مستوفي الشروط كامل العدة. إذاً فلابد أن تكون الأجيال التي بدأت قرض هذا الشعر قد تولت عجنه قبل اختماره بمئات السنين
ومن المؤسف ألا يكون للأدب العربي تاريخ صحيح نرجع إليه. فالكتابة كانت مجهولة لدى عرب الجاهلية وهم أبناء البادية والقفار. وهم البعيدون عن كل حضارة. فما وصلت إلينا أشعارهم التي قرضوها في بدء عهدهم بالشعر. فالحفاظ والرواة جاؤونا عنهم بكل غريب. فحدثونا عن العرب البائدة أحاديث لا يقرها عقل ولا صواب. ونحلوا الشعر العربي حتى جدنا آدم، وقالوا إن سفر أيوب كتب باللغة الغربية. وإن موسى تقله منه إلى العبرانية. وتفننوا فيما اختلفوا من روايات عن عاد وثمود وطسم وجديس. فإذا آمنا وصدقنا هذه الروايات كان لنا أن نقول إن اللغة العربية حفلت بالأدب الراقي قبل العصر المسيحي، وإنها من اللغات الأولى التي تخاطب بها الناس. على أننا نكتفي منها بأن تكون آدابها ارتقت إلى المستوى العالي في القرن الخامس للميلاد، يوم قامت فيها الممالك تحالف الفرس من جانب والروم من جانب آخر. فالآداب العربية أثمرت في ذلك الحين ثماراً طيبة لا يزال العطر منها يفوح، ولا تزال مثالاً يحتذى
وإننا لنرى في امرئ القيس على ما في شعره من الكلام الخشن - مما تكن تنبو عنه الآذان في ذلك العصر - سيداً من سادات الأدب لم يعرف أمثاله الأدب الفرنسي في غير القرن السابع عشر. وامرؤ ألقيس عرفه الأدب العربي في القرن السادس. وهذا أصدق دليل على أننا سبقنا القوم بألف ومائة عام
وكانت الآداب العربية وافرة الجني في عهدها الأول. وظهر الإسلام فزادها ثروة على ثروة. وخصوصاً في كتابه القرآن. فالقرآن أفضل ما تحفل به اللغة العربية، وإذا اكتفينا بأن ننظر إليه ككتاب يحفظ للغة العربية متانتها وبلاغتها، ويعدو الخاضعين لتعاليمه إلى قراءته وترديد آياته. فهم وحده يقي اللغة الموت، ويرد عنها البلاء، ويصونها من الضياع.