تلقاءهن إحدى بنات الفند الزماني وصاحت:(يا معشر القوم! أحب إلينا أن نموت مع الرجال في ساحة الوغى أحراراً، من أن نقبع في دورنا ذلة وانكساراً. فأما عدوا مع رجالنا منتصرين، أو هلاكا مع الهالين، وسيرى القوم أن المرأة البكرية لا تقل عن الرجل تحمساً للشرف وحفظاً للكرامة، وحرصاً على الثار. يا نساء الحي! حي على القتال! حي على القتال!)
ثم برزت أختها وقفت إلى جوارها وتغنت الفتاتان بأبيات ترهف الشعور، وتوغر الصدور
وتدافع القوم رجالاً ونساء للقتال: فما كنت ترى إلا أعناقاً تمتد إلى الموت، وأجساماً تتزاحم على الردى، وصدوراً تهبط وتعلو من فرط الجوى. ثم حمي وطيس الحرب، واشتد البلاء.
واشتبكت الأسنة، وسالت الدماء، وظهرت تغلب حمرة تستمر استعاراً، وناراً تضطرم اضطراماً، وانقضت على بكر تحصد أعناق رجالها، وتطيح رقاب أبطالها، حتى تراجع البكريون وأيقنوا بالفناء، وظنوا أن لا كاشف لهذا البلاء، وفيما هم يتعثرون في انكسارهم أقبلت كرمة بين صلع أم مالك بن زيد فارس بكر وغنت
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشي القَطى البارق ... المسك في المفارق
والدر في المخانق ... إن تقبلوا نعانق
عرس المولى طالق ... والعار منه لا حق
وما أشد ما يفعل الغناء والنسا في نفوس الأبطال. كان لهذه الأنشودة نغم كأنه خيوط انتظمت عليها الصفوف واتحدت في سلكها القلوب، بل كان النغم قبساً من نور سماوي نفذ إلى القلوب فأضاءها، وإلى النفوس فأنارها، وإلى العزائم فقواها، والى الهمم فدعاها. وسار القوم على هداه إلى نصر مبين. تدافعوا على العدو واقتحموا الصفوف واستباحوا المعاقل، وانكشف الهول فإذا المهاجم يرتد، وإذا المهزوم يشتد، وإذا تغلب بين قتيل وأسير وشريد
وانكشفت الغاشية، ونظر البكريون فيما بينهم فإذا بالحرث ابن عباد قد خلت منه الصفوف. فجزعوا وفزعوا. وذهبت بهم الظنون كل مذهب. وفيما هم في حيرتهم إذ أقبل فارس ينهب الأرض نهباً. قالوا لعل عنده الخبر اليقين. قال: (كأني بكم تبحثون عن الحرث من أبطال تغلب وانقض الحرث عليه كما ينقض النسر على الفرخ، وإذا بطل تغلب بين يديه