الرشيد قوة وتوثقاً. وهنا نعطف بإيجاز على ذكر تلك السفارات الشهيرة التي تبادلها الرشيد، وكارل الأكبر أو شارلمان إمبراطور الفرنج ولد ببين، والتي تنفرد بذكرها الروايات الفرنجية أيضاً؛ فإن هذه الروايات تقول لنا إن شارلمان جرياً على سياسة أبيه، أرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها يهودي يدعى إسحاق ليؤكد بينهما الصلات الودية، وليسعى لدى الخليفة في نيل بعض الامتيازات الخاصة بالنصارى والأماكن النصرانية المقدسة، فأكرم الرشيد وفادة السفراء الفرنج وردهم إلى شارلمان بهدية فخمة منها فيل وخيمة عربية وساعة مائية وحرائر وعطور شرقية وغيرها، وبعث إلى ملك الفرنج سفراءه بتحياته وتأكيد صداقته. وقد سر شارلمان بنتائج سفارته الاولى، فأوفد إلى الرشيد سفارة أخرى على رأسها مبعوثه إسحاق أيضاً؛ وتبالغ الرواية الفرنجية في نتائج هذه المراسلات بين الرشيد وشارلمان، فتقول إن الرشيد أرسل إلى ملك الفرنج مفاتيح الأماكن النصرانية المقدسة، ومنحه حق رعايتها وحمايتها. وقد وقعت هذه السفارات على ما يظهر في أوائل عهد الرشيد بين سنتي ٧٨٦ و٧٩٠ (١٧١ - ١٧٦هـ)؛ ولكن الرواية الفرنجية تؤرخ سفارة الخليفة إلى شارلمان بسنة ٨٠٠هـ، ولعلها رد الرشيد على السفارة الفرنجية الثانية. ويختلف البحث الحديث في أمر هذه السفارات والمكاتبات بين الرشيد وشارلمان، فيؤيد البعض صحتها وينكرها البعض الآخر، أما نحن فنرجح صحتها
وتستطرد الرواية الفرنجية؛ فتذكر أن هذه العلاقات الودية بين بغداد ومملكة الفرنج، استمرت بعد وفاة الرشيد وشارلمان؛ وأن المأمون ولد الرشيد بعث إلى (لويس) ولد شارلمان وملك الفرنج من بعده سفارة أخرى لتأكيد المودة والصداقة بينهم؛ وتشير الرواية الفرنجية في ذلك الصدد إلى ما كان لنفوذ الرشيد قبل وفاته من التأثير في سياسة خوارج البحر المسلمين وإحجامهم عن مهاجمة الشواطئ الفرنجية والرومانية، وإلى ما كتبه الباباليون الثالث إلى شارلمان بعد وفاة الرشيد من أنه إذا كان خوارج البحر المسلمين لا يحترمون بعد شواطئ الإمبراطورية الفرنجية، فذلك لأن نفوذ الخليفة في نفوسهم قد ذهب بعد وفاته
ونستطيع أن نرجع هذا التقرب بين بغداد ومملكة الفرنج إلى بواعث سياسية لها قيمتها؛ ذلك أن الدولة العباسية الفتية ما كادت تقوم على أنقاض الدولة الأموية في المشرق، حتى