لما قامت الخلافة الفاطمية بمصر، غدت مصر منذ أواخر القرن الرابع، قوة إسلامية جديدة تشترك في قيادة الإسلام وتوجيهه في المشرق. ولم تكن مصر قبل ذلك مركزاً هاماً للتجاذب السياسي بين الإسلام والنصرانية، لأنها لم تكن أكثر من ولاية خلافية أو دولة ثانوية تظللها الخلافة العباسية بسلطانها الروحي. على أنه كانت ثمة علائق مستقلة في هذا العصر بينها وبين الدولة البيزنطية زعيمة النصرانية في المشرق. وأشهر ما انتهى إلينا من أخبار الحوادث الدبلوماسية بين الدولتين في تلك الفترة سفارة الإمبراطور رومانوس الأول (ارمانوس) قيصر قسطنطينية إلى محمد بن طغج الإخشيد صاحب مصر (٣٢٣ - ٣٣٤هـ)، ورد الإخشيد على هذه السفارة. وحمل كتاب الإمبراطور إلى الإخشيد رسولاه نقولا وإسحاق، وفيه يطلب الإمبراطور تنظيم مسألة الفداء، وتسهيل المعاملات التجارية لرسله في البيع والشراء، وعقد الصداقة المتبادلة بين الدولتين، غير أن الإمبراطور يمن في نفس الوقت على الإخشيد بأن تنازل لمكاتبته مباشرة، لأن مقامه كقيصر الدولة الشرقية يحتم عليه ألا يكاتب من هو دون الخليفة، ولكنه مع ذلك قد خص الإخشيد بالمكاتبة لما نمى إليه من رفيع مكانته وحميد سيرته وفيض عدالته ورحمته. وقد رد الإخشيد على رسالة الإمبراطور بكتاب شهير من إنشاء إبراهيم بن عبد الله النجيرمي، وانتهت إلينا صورته بأكملها. وفيه يرد الإخشيد على رومانوس بالشكر على ما أسبغ عليه من حمد ومديح، ويقول: إنه مهما تكن منزلة ملك الروم فانه لا يرى بأساً أن يكتب إليه، وقد كتب من قبل إلى أقرانه ممن لا يرتفع إلى منزلته، فقد كتب القياصرة من قبل إلى خمارويه أحمد بن طولون، والى تكين مولى الخليفة وحاكم مصر وحدها؛ وينوه الإخشيد بأهمية مكانته وضخامة ملكه وما لمصر من غابر الزمن من ملك باذخ، وأنه يحكم الشام وفلسطين إلى جانب مصر، ويشرف على مكة منبع الإسلام، ومدينة الرسول؛ وأنه لم يكن يحب أن يثير في ذلك جدلاً أو ملاحظة لولا ما تقدم به الإمبراطور. ثم يعبر الإخشيد عن حمده وثنائه للإمبراطور لما يبديه نحو الأسرى المسلمين من الرفق والرعاية، ويصرح بإجابته إلى ما طلبه من تنظيم الفداء ومبادلة الأسرى، ومن عقد الصداقة المتبادلة، ومن تسهيل المعاملات التجارية لرسله التجاريين، وقد صيغت هذه الرسالة الشهيرة في أسلوب سياسي