تعرض عليه صورتان لمنظر واحد أولاهما لمصور صيني والأخرى لفارسي؛ ونحن حين نستعرض صورتين لمنظر من مناظر الطبيعة مثلاً، تبارت في إحداهما ريشة صينية وفي الأخرى فارسية، فإننا نلاحظ في الأولى التحرر من القيود الطبيعية وعدم التزام وحدة معينة، بل نرى كيف يخضع الفنان الطبيعة لريشته، بينما نلمس تناسق الأجزاء وترتيب بعضها بالنسبة للبعض الآخر في صورة الفنان الفارسي، وربما سأل السامع نفسه إزاء هذا عن العلة أو العلل الحقيقية والمباشرة أو غير المباشرة التي أدت إلى افتراقهما بعضهما عن بعض بعد أن اتحدا في الفكرة، أهي الخيال؟ أم الإحساس؟ أم طبيعة كل منهما؟ وقد يكون ذلك أحد هذه الأسئلة، وقد تكون جميعاً متحدة، ولكن هناك أمراً لا بد منه، ولا بد أن نذكره إذا أردنا إجابة شافية توصلنا أو تقربنا إلى بغيتنا، ذلك أن استيعاب الفنان الإيراني للمسافات لم يكن كاستيعاب الصيني لها واهتمامه بها، فبينا نجد عند الأخير الطلاقة الفنية، والإحساس بالحرية، إذا بنا نجد الفنان الفارسي يحدد قبل البدء، ويرسم لريشته محيطاً لا تتعداه، ومجالا لا تخرج عنه بحال من الأحوال
وصفة ثانية كان يمتاز بها الفنان الفارسي على وجه العموم، تلك هي أنه لم يكن ليشرد بريشته كثيراً، وربما عد هذا في نظر بعض نقاد العصر الحاضر جموداً، وقد يخالفهم في نظرتهم هذه كثيرون، ولكل من الفريقين وجهة ورأي يباين رأي الفريق الآخر، وقد يتعصبون لهذه الأفكار والآراء، ولكنهم يتفقون في أنه عمل رائع جدير بالإعجاب، وسواء أكان الحق في جانب هذا أم ذاك، فذلك أمر مرجعه إلى الذوق الفني والشعور الرهف الذي يستشف الحقيقة خلال الطلاسم، ويتلمس الشعلة من بين أسداف الظلام، ويتعرف الصواب والحق مهما تكالبت أسباب الباطل، ويستخرجه كما يستخرج التبر من الثرى نقياً ولعل أقرب الأمثلة على هذه الصفة التي أشرنا إليها آنفاً: أعمال (بهزاد) وهو أكبر فنان فارسي تبوأ ذروة المجد من رسومه الفنية، وكان ممتازاً في إخراجها، قوي الإفصاح عن مقصوده، ولكنه بالرغم من هذا المجد التالد والفن الخالد، فإننا لا نجده قد قام بأية ثورة على هذه القيود - كما يسميها البعض - ولم يحاول أن ينتزع نفسه من ربقة التقاليد وترسم الآثار، ولم نشهد له محاولة ولو ساذجة تجعلنا نقول إن هناك تباشير تطور أو حركة تجديدية ضد ما تآلفوا عليه، بل رأيناه وخلفه يسيرون على منهج واحد، كأنما استسهلوا هذه الطريق