الغربية لمصر. وإن النهضة المصرية الأخيرة بدأت على أساس الثقافة الفرنسية واستمرت كذلك طوال القرن الماضي، وإن قادة الحركة الفكرية الحديثة في مصر تلقوا العلم جميعاً في فرنسا، وإن الصلات التاريخية والاجتماعية القديمة بين مصر وفرنسا، وكون مصر اقتبست قوانينها الحديثة من القانون المدني الفرنسي، وكون اللغة الفرنسية ما تزال لغة المعاملات المختلفة في مصر، وأخيراً كون مصر أمة من أمم البحر الأبيض التي تغمرها الثقافات اللاتينية: كل هذه العوامل تحتم الإبقاء على اللغة الفرنسية في مصر، والمضي في الاقتباس من الثقافة الفرنسية وتوثيق هذه الروابط المعنوية بين البلدين
ونحن لا نود أن نجادل في هذه الوقائع من الناحية المادية، ولكنا نلاحظ فقط أن مصر الحديثة لم تتجه إلى اختيار الثقافة الفرنسية قصداً بمحض اختيارها؛ وإنما هو مجرى الحوادث القاهر الذي ساقها إلى هذا السبيل، فقد نظم الفرنسيون حينما غزوا مصر في خاتمة القرن الثامن عشر، غزوهم المعنوي إلى جانب الغزو السياسي، وعنوا ببث ثقافتهم في مصر عناية خاصة؛ ولما استخلص محمد على حكم البلاد لنفسه، ألفى أمامه بقية قائمة من هذه الثقافة، وألفى الفرنسيين على أهبة لمعاونته، وقضت ظروف سياسية معينة أن يقبل هذه المعاونة وأن ينتفع بها في تنظيم إدارته وإصلاح جيشه وماليته، وفي ظل هذه الظروف أرسلت البعثات المصرية الأولى إلى فرنسا، وقد كانت يومئذ أوثق الدول الغربية صلة بمصر، واستطاعت فرنسا أن تقوى نفوذها المعنوي والثقافي بمصر، وغدا هذا النفوذ بمرور الزمن ظاهرة قائمة في الحياة المصرية، واستمر ينتج أثره في طبع المجتمع المصري المثقف بالطابع الفرنسي حتى أواخر القرن الماضي. هذه هي قصة الثقافة الفرنسية بمصر، فلم تكن مصر عامدة أو حرة في اختيارها ولم تخترها وتؤثرها لأنها أصلح الثقافات لها، أو لأن ظروفها الجغرافية والاجتماعية كإحدى أمم البحر الأبيض تحتم عليها أن تسير وراء الثقافة اللاتينية، أو لغير ذلك مما ينتحله أنصار الثقافة الفرنسية في مصر؛ ولم يكن الأمر أكثر من حادث تاريخي عرضي زالت البواعث والظروف التي أدت إليه منذ بعيد
لسنا ننتقص من الثقافة الفرنسية أو غيرها من الثقافات الغربية الرفيعة، ولكنا سئمنا هذا التنافس على غزونا من طريق اللغات والثقافات، ولا نريد بعد أن نعتبر منطقة نفوذ لهذه