يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم، وإني لأخشى والله أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه؛ أن كل من كان له أب أو أم بلغ الستين فليقتله لتخلص الأمة من قديمها الإنساني. . .!
كأنه لا يعرف أنه إنما يتسلط على أيام معاصريه لا على التاريخ ويحكم على طاعة قومه وعصيانهم لا على قلوبهم وطباعهم وميراثهم من الأسلاف؛ فما هو إلا أن يهلك حتى ينبعث في الدنيا شيئان: نتن رمته في بطن الأرض؛ ونتن أعماله على ظهر الأرض إن هذا الرجل المسلط كالغبار المستطار، لا يكنس إلا بعد أن يقع. . .
ولقد رأى المأفون أن أكل الناس الملوخيا الخضراء والفقاع، والترمس والجرجير، والزبيب والعنب - هوى قديم في طباع الناس فنهى عن كل ذلك، لا يباع ولا يؤكل، وظهر على أن جماعة باعوا أشياء منها فضربهم بالسياط، وأمر فطيف بهم في الأسواق، ثم ضرب أعناقهم؛ كأن الذي يحمل الملوخيا الخضراء على رأسه ليبيعها يلبس عمامة خضراء. . .
أهذا - ويحه - تجديد في الأمة، أم تجديد في المعدة. . .؟
المجلد الثامن
لا يرضى الطاغية إلا أن يمحق روحانية الأمة كلها، فلا يترك شيئاً روحانياً يكون له في أعصاب الناس أثر من الوقار. وبمن يستظهر إذا محقت روحانية الأمة وأشرفت نزعتها الدينية على الانحلال؟ كأنه لا يعلم أن حقيقة الوجود لأمة من الأمم إنما تستمد من إيمانها بالمثل الأعلى الذي يدفعها في سلمها إلى الحياة بقوة، كما يدفعها في حربها إلى الموت بقوة؛ وكأنه لا يعلم أن التاريخ كله تقرره في الأرض بضعة مبادئ دينية
هذا الحاكم الأخرق هو عندي كالذي يقول لنفسه: لم أستطع أن أفتح دولة، فلأفتح دولة في مملكتي. . . لقد أمر بهدم الكنائس والبيع، حتى بلغ ما هدم منها ثلاثين ألفاً ونيفاً
أي مجنون أسخف جنوناً من هذا الذي يحسب النفوس الإنسانية كالأخشاب؛ تقبل كلها بغير استثناء أن تدق فيها المسامير. . .؟
سيعلم إذا نشبت حرب بينه وبين دولة أخرى، أنه كسر أشد سيوفه مضاء حين كسر الدين!