للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العصر. والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولكن لم يكن حظهم منه جليلاً. ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث!

على أن شيئاً من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا. كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئاً من نبو ولا نشوز. وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات

وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بدعا في شريعة الآداب سواء في جديد الزمن أو في قديمه. فقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يعتمدون الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيال الطريف المنسجم، ويصيبونه في لغي أجنبية، فلا يزالون به يطامنون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب لغاهم، حتى يجلوه فيها من غير عسر ولا استكراه. وان تصرف المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شكوا من ألوان المعاني في اللغات الأجنبية لمن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام. وهل رأيت إلى ابن المقفع لو لم يجئك أنه ترجم كتابه (كليلة ودمنة) عن إحدى اللغات الهندية. أفكان يتسرح بك الشك في أنه عربي الأصل والمنجم، عربي الحلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما ينقل إلى لغته، وطبعه على ما يواتي أحلام معشره، ويسوغ في أذواقهم، وينزع منازع بلاغاتهم، ليس مما يقدح في كفايته، بل إنه لما يرفع من قدره ويغلى من تصرفه. وكيف لا وهذا القرآن الحكيم لقد حدثنا عن عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات متفرقة، ونقل إلينا كثيراً من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أداها إلا في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حد الاعجاز، وهل بعد بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟!

وصفوة القول أنه لا يعيب اللغة أو يغض من شأنها أن تصيب من بلاغات غيرها على أن تسيغه وتهضمه وتسويه حتى ينتظم في سلكها، ويتصل بخلقها، ويوسع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يقسر عليها قسراً ويستكره لها استكراهاً، فينكر صورتها ويشوه من خلقها على ما نرى من صنع كثير يعربدون في الأدب العربي باسم (التجديد) في هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>