وبعد أن زود هرمز صاحبه بوصايا غالية، انتحى ناحية قريبة، واختبأ بريسوس خلف شجرة باسقة؛ ولشد ما دهش إذ رأى إحدى السيكلوب تقود أختها، وفي جبينها العين العجيبة ترمق بها أصقاع العالم، وتحدث أختيها عما ترى. وبعد قيل ثار نزاع بين الأخوات على العين، كل تريد أن تأخذ نوبتها، وكل تدعى أن الدور دورها. وفيما كانت الأولى تنزع العين، وتوشك أن تعطيها للثانية، انقض برسيوس فتسلمها من السيكلوبة، دون وعي منها!! لأنها بدون العين لا تستطيع أن ترى شيئاً في العالم. وينشب نزاع شديد بين السيكلوب على العين، كل منهن تتهم أختها بأن العين معها وتدعى الإنكار، حتى وضع برسيوس حداً لتنازعهن، بان هتف بهن:(أيتها الأخوات العزيزات، لا تنازعن على عينكن، فهي في هذه اللحظة معي وبين يدي.) وانقضت السيكلوب هلعات نحو مصدر الصوت، ولكن هيهات أن يقبضن على شخص تحمله نعلا هرمز، فلقد قفز قفزة هائلة، أقصى بها نفسه عنهن، ثم قال:(أيتها الأخوات العزيزات! أنا أعلم أنكن لا تستطعن الحياة بدون العين الغالية، وأنا أعدكن بردها اليكن، ولكن بشرط واحد: ذلك أن تخبرنني عن المكان الذي تأوي إليه (مديوسا) وأخواتها الجرجون، فان لم تفعلن فلا عين لكن عندي.)
وهنا تميزت السيكلوب من الغيظ وكدن لا يجبن بشيء، لأنهن منهيات عن إذاعة أسرار العالم، ولكن إذاعة السر في هذه اللحظة أهون ألف مرة من هذا العمى المطلق، والظلام المبين يغطش حياتهن، فأخبرنه بموضع الجزيرة ومأوى الجرجون فيها، ولكي يثق مما أنبأنه به نظر في العين التي بين يديه فرأى الجزيرة، وأيقن أنهن لم يخنه؛ ثم إنه تحين الفرصة الملائمة ودفع بالعين في جبهة اقرب السيكلوب منه وغاب في الجو ميمماً شطر هرمز، حيث وجده يمرح في غيضة ناضرة فتعانقا عناقاً طويلاً، وشكره برسيوس على جزيل مساعدته، ثم افترقا على أن يبدأ برسيوس رحلته إلى جزيرة الجرجون
وكانت رحلة طويلة شاقة، برغم نعلي هرمز. فكم بحار طوى، وكم وهاد رأى، وكم ريح صرصر كافح، وكم مشقة احتمل، حتى وصل إلى جزيرة الجرجون! ولم ينس ما أوصاه به هرمز من وجوب النظر إلى أعلى دائماً حتى لا تقع عيناه على عيني إحدى الجرجون فيحور حجارة صماء. وكان يتخذ من درع مينرفا مرآة صافية يرى فيها ما تعج به الجزيرة من كهوف وزروع وغابات. ولشد ما سر سروراً لا مزيد عليه حين وجد الجرجون الثلاث