نعرف أن شاعر ألمانيا الأكبر (جيته) قد ترك فيما ترك محادثاته التي تملأ عشرة مجلدات ومذكراته اليومية ومراسلاته العديدة؛ ومن الصعب اليوم، في عصر السرعة والحياة المثقلة، أن يتفرغ المرء لقراءة هذه المجلدات العديدة وأن يستمرئ كل ما فيها من المعاني والصور، ولكن كاتباً فرنسياً هو المسيو ربوز داركور استطاع أن يدرس هذا التراث دراسة مستفيضة وأن يضع كتاباً بخلاصة دراسته بعنوان (جيته وفن الحياة) ' يحاول المؤلف في كتابه أن يلخص تراث جيته أو يردده، ولكنه يحاول أن يقدم للقارئ مجموعة الحكم والصور والمواعظ التي تتخلل تراث الشاعر الأكبر. وتسمية الكتاب بهذا العنوان ترجع إلى اللقب الذي يطلقه الألمان أنفسهم على جيته، فهم يسمونه (فنان الحياة)
والواقع أنه قلما يوجد بين عظماء الرجال من يضارع جيته في حياته المنظمة المركزة حول غايات معينة؛ فقد عاش جيته تحدوه إرادة راسخة في أن يعرف وأن يشبع حاجات النفس وحاجات الخلق، وأن يباعد بين نفسه وبين ما تتأذى منه، وأن يرتفع بكرامته إلى الذرى؛ وقد فطن جيته إلى ذلك النقص الاجتماعي الذي يبعثه تشبع الناس بفكرة حقوق الإنسان نحو المجتمع، وأدرك أن للإنسان نحو نفسه حقوقاً خاصة، هي أن يرتفع بخلاله وأن يسعى إلى الكمال، وفي عصرنا لا يكاد يفطن المرء إلى هذا الواجب، لأن مشاغل الحياة وحمى الشهوات البشرية تستغرق كل عنايته وتفكيره؛ وقد كان جيته من أشد الناس عملاً وانشغالاً، ولكنه لم ينس أن يعمل لنفسه من الناحية الخلقية والمعنوية، وأن يكونها حسبما توحي به المثل العليا. غير أنك تشعر خلال هذه الصور الممتازة التي يقدمها إليك كفاح جيته في سبيل الكمال بنقص بين، هو ما تأنسه في كل أقواله وأفعاله من ضروب الأثرة؛ فقد كان يحرص على ألا يعكر حياته معكر، وألا يثير عواطفه شيء، حتى لا يضعف أمام النوازل والحوادث؛ وهي فلسفة الجمود والقسوة التي تبعد كثيراً عن مثل الإنسانية الرفيعة. هذه الصور والحقائق يدرسها مسيو داركور دراسة فياضة ممتعة، ويقدم إلينا حياة الشاعر الأكبر على ضوء المبادئ والفلسفة التي تكونت فيها