ماذا كان الموقف الحاكم خلال هذه الفترة الأولى من خلافته؟ لقد كان برجوان بلا ريب يحجبه ما استطاع عن الاتصال برجال الدولة وبشئونها، ويدفع به ما استطاع إلى مجالي اللهو واللعب؛ وكانت أم الحاكم وهي نصرانية كما قدمنا، تشهد ولدها ينمو ويترعرع في ظل هذه الوصاية الخطرة عاجزة عن التدخل لحمايته أو توجيهه، لأن برجوان لم يفسح لها أي مجال للتدخل في شئون الدولة. غير أن الحاكم كان يشعر رغم حداثته بخطورة المنصب الذي يتبوأه؛ ولم يلبث أن استرعى سير الأمور اهتمامه، ولم يلبث أن فطن إلى موقف برجوان، واستئثاره بالسلطة واستبداده بالشئون. ولما بلغ برجوان ذروة السلطان والنفوذ، كان الحاكم قد أشرف على الخامسة، وأضحى الطفل فتى يافعا شديد اليقظة والطموح. وكان برجوان يذهب في طغيانه وعسفه إلى حدود بعيدة، ويثير حوله ضراما من البغضاء والحقد، ويحفز بذلك خصومه داخل البلاط وخارجه إلى العمل على تقويض سلطانه ومكانته. واعتقد برجوان أن الجو قد خلا له، فانكب على ملاهيه وملاذه، يقضي معظم أوقاته في مجالس الأنس والغناء والطرب، ولم يفطن برجوان من جهة أخرى إلى ما وقع في نفس الأمير الفتى ومشاعره من التبدل والتطور، فاستمر يعامله معاملة الطفل المحجور عليه؛ وذهب في استهتاره إلى مدى شعر الحاكم أنه لا يتفق مع مقامه ومكانته، وربما يذهب برجوان إلى حد الإساءة إلى الحاكم ونقض أوامره، بل إلى حد إهانته والتنكر له، ويقص علينا المقريزي منظرا من هذه المناظر التي اجترأ فيها برجوان على إهانة سيده خلاصته:(أن الحاكم استدعاه ذات يوم وهو راكب معه، فسار إليه وقد ثنى رجله على عنق فرسه، وصار باطن قدمه وفيه الخف قبالة وجه الحاكم)، ونحو ذلك من المناظر والإهانات المثيرة
أحفظت نفس الحاكم لهذا الضغط وهذا الاجتراء، فأضمر التخلص من ذلك الوصي الطاغية، وربما تأثر في هذا العزم بتحريض بعض خصوم برجوان ولا سيما ريدان الصقلبي حامل المظلة وخصمه القوي داخل البلاط؛ ولكن لا ريب أن الحاكم كان قد بدأ يومئذ يثور لسلطته المسلوبة، وأخذت تتفتح في نفسه الوثابة تلك الأهواء العنيفة المضطرمة التي بلغت ذروتها فيما بعد. وعلى أي حال فقد حكم على برجوان بالموت؛