فخيل إلي أنه أخ قعد لرثي أخاه الفقيد، أو صديق برح به الوجع عندما رأى صديقه يختطف من بين الجموع على هذه الحال المؤلمة، فارتمى عليه يبكيه ويؤدي إليه حق القلب الإنساني في رثاء الصديق الحميم؛ غير أن المقام لم يطل به على ذلك، فقد عاد إليه الرقباء وفي أيديهم السياط، فألهبوا ظهور من بقي حول المكان، وأهووا إليه بالسوط فمزقوا ظهره العاري وهو مكب على جثة صاحبه، فقفز الرجل من الألم، وانتفض انتفاضة كأنما هو وحش أستثير، وأقبل على الذي ضربه من الرقباء، فرفع هذا يده بالسوط ليعيده عليه الكرة فلم يمكنه من ذلك، بل أسرع في سطوة الغاضب وانتزع السوط من بين يده ثم علاه به مرتين، ثم دفعه إلى الأرض فتدأدأ عليها، وكان قريبا من حافة البناء فهو في الفضاء فلم يستقر إلا على سطح الهضبة بعد أن تهشم وتحطم. ثم وقف الرجل على حجر من أحجار البناء متحديا سائر الرقباء، فلم يجرؤ منهم أحد على الاقتراب منه، وعاد الاضطراب إلى مثل ما كان عليه، وأسرع ألوف من العمال مرة أخرى نحو المكان ينظرون إلى الحدث الجديد وينتهزون فرصة للراحة من عملهم المضني. غير أنها لم تكن سوى مدة قصيرة، فإذا الجمع يضطرب في جانب من جوانبه، ثم إذا بالاضطراب يسير خطوة خطوة بين الوقوف، ثم إذا بالجمع ينفرج عن رجل شيخ يسير في تؤدة ووقار، وهو كلما سار في جمع انفرج له وركع من حوله إجلالا وخشوعا، فلقد كان ذلك هو كاهن القوم أتى بأمر الإله (رع)، وأقبل بكلمة الحكمة من (تحوت)، وكان يلبس ثوبا طويلا يظهر من بين الجموع العارية، وقد تدلت على صدره لحية طويلة بيضاء كاللبن، وكان طويل القامة في انحناء يسير بأعلى ظهره، وعلى رأسه منديل يغطي شعره إلى شحمتي أذنيه، وقد لف حوله عصابة تمسك به حول الرأس. فلما صار على قيد ذراع من العامل الثائر وقف وحرك شفتيه ببعض القول ثم رفع يمناه بطيئا نحو الرجل وتكلم كلمات أخرى، غير أن الرجل وقف وقفته الأولى ولم يزل متحديا، وحرك شفتيه ببعض كلمات والغضب باد في عينيه، وجعل ينظر إلى القوم الذين اجتمعوا حوله كأنه يستنصر بهم، فنظر الكاهن الشيخ لحظة نحوه، ثم نظر إلى الألوف الواقفة حوله وتكلم، وجعل يرفع يديه نحوهم في تؤدة ووقار وهو يتكلم. فقضى على ذلك حينا، ثم وقف ونظر إلى الجمع فإذا بحركة تبدأ في الواقفين وتتزايد، ثم ما هي إلا لحظة حتى كان الجمع مضطربا يصيح رافعا أيديه مهدد غاضبا