للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القطرتين. وصاح فرحان جذلا. (إنه حي واحد، واحد فحسب، في هذه القطرة! يا للنجاح، ما أحلاه! نعم مخلوق واحد لا ثاني له يتخبط به على حد قول المأفون المغفل (أليس) فيقسمه نصفين! وإذن فلأرقبه لأرى كيف ينقسم!). وصوب عدسته إلى هذا المخلوق الوحيد الصغير في هذه القطرة العظيمة، (إنه كالسمكة الفريدة تسكن وحدها الأقيانوس الواسع)

وعندئذ رأى عجبا أي عجب. فإن هذا المخلوق، وشكله كالقضيب، أخذ يدق وسطه ثم يدق، ويرهف خصره ثم يرهف، حتى لم يصل مقدمه بمؤخره غير خيط كنسيج العنكبوت، وإذا بالنصفين يضطربان ويختلجان ويتلويان حتى انفصلا، فكانا مخلوقين حيين جديدين انزلقا برشاقة في الماء انزلاق المخلوق الأول الذي عنه نشآ. نعم كانا أقصر منه، ولكن عدا هذا فلم يكن بينهما وبينه ما يميزه عنهما. واستتمت الغبطة واكتمل العجب بعد دقائق، فإن هذين المخلوقين انقسما من جديد على النحو الفائت فكانا أربعة

وأعاد اسبلنزاني هذه الألعوبة البديعة عشرات المرات، وفي كل مرة يجد الذي وجده أولا. وعندئذ سقط على (أليس) المسكين بكل ثقله سقوط طن من الحجر، ففرطحه، وسواه بالأرض حتى خفى، وخفى اسمه من الوجود، وخفيت خزعبلته الجميلة، وخفى ما كان حكاه من وجود أحفاد في بطون بنات في بطون أمهات من تلك المخلوقات. وكان اسبلنزاني لذاع اللسان، فقال له: (أنا يا بني ناصح لك أن تعود إلى المدرسة من جديد فتتعلم ألف باء المكروب) وأشار بعد ذلك إلى (أليس) فقال إنه أخطأ لأنه لم يقرأ بحث صوصير القيم الرائع باعتناء، إذ لو فعل لما قام يخترع نظريات فاسدة لا يكون من ورائها إلا القيام العلماء بتكذيبها، فينفقون الجهد الكثير في استخراج حقائق من طبيعة معروفة ببخلها وكزازة كفها

إن الباحث العلمي، الباحث الحق في الطبيعة، يشبه الكاتب والرسام والموسيقي، بعضه فنان وبعضه نقاب جامد الشعور بارد النفس. لذلك نجد اسبلنزاني يتخيل الخيالات، ويتصور أنه بطل مغوار لعهد من الكشف جديد، ويكتب فيشبه نفسه بـ (كريستوف كولمب)، وينظر إلى عالم المكروب فيخاله عالما جديدا قائما بذاته كبعض العوالم، ويخال نفسه كشافة جريئا مغامرا قام ببعوث لم تكشف من تلك المجاهل إلا حوافيها. ومع كل هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>