لم تعد تعني بتلك الكتب المفعمة بالثناء الأجوف والألقاب الطويلة يحاط بها اسم النبي، وهو في عظمته أجل من أن يحتاج إليها. إنما تريد الناس اليوم حقيقة مجردة ناصعة هي في تجردها أجمل وأسمى وأبلغ في النفوذ إلى القلوب، وهذا ما صنع هيكل بك في كتابه (حياة محمد) على نحو خليق بالثناء، فلقد أسقط من حياة النبي تلك المعجزات التي لا تغني من الحق شيئاً ما دمنا في مجال التدليل العقلي، وأظهر شخصية النبي عظيمة في بشريتها السامية، وأبان عن غرض النبي والدعوة إلى دين جوهره اقتناع النفس بالحقيقة العليا. ان هذه النظرة الجديدة فيها إجلال للنبوة. وان أولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون إلى الأنبياء أن يثبتوا نبوتهم بالمعجزات قد أثموا في حق الفكر البشري قبل أن يأُثموا في حق الدين.
ان المعجزة: أي الإتيان بعمل خارق للمعتاد لا يدل على شيء ولا يثبت نبوة ولا يدحضها. فان من الكهان أو بسطاء الناس من يملكون أحياناً تلك القوى الخارقة في أجسامهم أو عقولهم أو أرواحهم دون أن يكونوا من أجل ذلك أنبياء. إن النبي ليس في حاجة إلى معجزة كي يكون نبياً. إنما النبي من حمل رسالة علوية لا ينصرف عن الحياة بغير ذلك، فقد بلغهم رسالته واعتمد في إثباتها على العقل المجرد.
ولقد جاء في كتاب هيكل بك:(لما جهد المسلمون عطشاً أثناء مسيرة جيش العسرة إلى غزوة تبوك ثم أمطرتهم السماء ذهب بعضهم إليه (إلى النبي) يقول إنها معجزة، فكان جوابه:(إنما هي سحابة مارة)؛ ولما كسفت الشمس يوم اختار الله ابنه إبراهيم إلى جواره قال الناس:(إن هذا الكسوف معجزة) فكان جوابه: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته) هذا جواب محمد الذي قيل إنه نبي كاذب!!! فهل يمكن أن يكون هذا جواب نبي كاذب؟؟
ان في كتاب هيكل صفحات تصلح رداً بليغاً على فولتير. إن محمداً هو أعظم من فهم حقيقة النبوة، ووعى معنى الحقيقة العليا، وأدرك أن أكبر معجزة في هذا الكون هي انه لا يوجد في الكون معجزات، وأن كل شيء يسير طبقاً لنظام دقيق. وإذا قيل نظام قيل قانون، وإذا قيل قانون قيل عقل مدبر، وهذا العقل واحد أحد تبدو سعته في إدارة الأجسام غير المحدودة في الصغر، ذات اليد العلوية وعين أثرها في كل شيء، يد واحدة لا تتغير وقانون واحد لا يتغير. إن محمداً كما يبدو في وصف الدكتور هيكل قد تأمل الطبيعة كثيراً،