ودخل مكة في جماعة من المهاجرين مستخفين على حذر ورقبة، حتى لقيه (الوليد بن المغيرة المخزومي) فأستظل بجواره وأمن عثمان عدوان المشركين في حماية أعز قريش وأمنعها، ومن ذا يجرؤ أن يستبيح ذمة الوليد في جاره؟ فأنه ليغدو ويروح لا يناله شر ولا يعرض له أحد بسوء. . .
وخرج عثمان مرة لبعض شأنه، فإذا هو يبصر رجل من أصحاب رسول الله مطروحاً على الرمضاء عارياً في حر مكة وقد حميت الظهيرة وقد وضعت على صدره صخرةُ ينوء بها الفحل، تعذيباً له بما آمنة بمحمد!
واهتزت نفس عثمان مما رأى، وبرح به الألم مما ينال أخاه المسلم فلا يستطيع له دفعاً، فصغرت نفسه في عينه، ومضى والهم يجثم على صدره أثقل من صخرة العذاب على صدر أخيه!
ومشى خطوات، فإذا هو يشاهد شراً مما رأى: هذا أبو بكر، يلقاه سفيهُ من سفهاء مكة فيحثوا عليه التراب، وأولاء جماعةُ من المشركين يشهدون سفاهة صاحبهم فيضحكون ويسخرون.!
وزاد الهم بعثمان، وغشيته غاشية من الحزن والألم! إنه ليحس التراب على رأسه، وإنه ليشعر بمثل حر الرمضاء يشوي جسده هو، وإن قلبه ليفيض غماً. إنه ليرى نفسه في جوار سيد قريش، فما يمنعه ذلك أن يلقي من آلام النفس فوق ما يلقى صحابته من آلام الجسد!
وسار مثقل الرأس، يحمل همه على كفيه، ضيق الخطى كأنما يطأ الشوك. وإذا واحدٌ من المسلمين يلقاه فيحدثه بما لقي (آل ياسر) من أذى بني مخزوم: لقد مات (ياسر) في العذاب وماتت زوجه (سمية) طعيناً بيد أبي جهل، وهذا (عمار بن ياسر) لا طاقة له بدفع ما يلقى من أذى بني مخزوم، وما أراه إلا موشكا أن يلحق بأبويه. . .!
واشتد به الهم إذ سمع ما سمع بعد إذ رأى ما رأى، ومضى يتحدث إلى خواطره، فإذا هو على الأمان والطمأنينة في عذابٍ أشد مما يلقى إخوانه المستضعفون. وقال لنفسه: والله إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء